قال عمارة اليمني: ومن محاسن العادل ابن الصالح بن رزيك: خروج أمره إلى والي الإسكندرية بتسيير القاضي الفاضل إلى الباب، واستخدامه في ديوان الجيش، فإنه غرس منه للدولة، بل للملة، شجرة مباركة متزايدة النماء، أصلها ثابت وفرعها في السماء.
وقال العماد الكاتب: وتمت الرزية الكبرى وفجيعة أهل الدين والدنيا بانتقال القاضي الفاضل من دار الفناء إلى دار البقاء، في داره بالقاهرة، في سادس ربيع الآخر. وكان ليلتئذ صلى العشاء، وجلس مع مدرس مدرسته، وتحدث معه ما شاء، وطالت المسامرة، وانفصل إلى منزله صحيح البدن، وقال لغلامه: رتب حوائج الحمام، وعرفني حتى أقضي منى المنام. فوافاه سحرًا للإعلام، فما اكترث بصوت الغلام، ولم يدر أن كلم الحمام حمى من الكلام، وأن وثوقه بطهارته من الكوثر أغناه عن الحمام، فبادر إليه ولده فألفاه وهو ساكت باهت، فلبث يومه لا يُسمع له إلا أنين خفي، ثم قضى سعيدًا ولم يبق في مدة حياته عملًا صالحًا إلا وقدمه، ولا عهدًا في الجنة إلا أحكمه، ولا عقدًا في البر إلا أبرمه، فإن صنائعه في الرقاب، وأوقافه على سبل الخيرات متجاوزة الحساب، ولا سيما أوقافه لفكاك أسرى المسلمين إلى يوم الحساب، وأعان الطلبة الشافعية والمالكية عند داره بالمدرسة، والأيتام بالكتاب.
وكان للحقوق قاضيًا، وفي الحقائق ماضيًا. سلطانه مطاع، والسلطان له مطيع، ما افتتح الأقاليم إلا بأقاليد آرائه، ومقاليد غناه وغنائه، وكنتُ من حسناته محسوبًا، وإلى مناسب آلائه منسوبًا، أعرف صناعته، ويعرف صناعتي، وأعارضُ بضاعته الثمينة بمزجاة بضاعتي. وكانت كتابته كتائب النصر، وبراعته رائعة الدهر، ويراعته بارئة للبرّ، وعبارته نافثة في عُقَد السِّحْر، وبلاغته للدولة مجملة، وللمملكة مكمّلة، وللعصر الصلاحي على سائر الأعصار مفضلة، وهو الذي نسخ أساليب القدماء بما أقدمه من الأساليب، وأعربه من الإبداع، وأبدعه من الغريب. وما ألفيته كرر دعاء في مكاتبة، ولا ردد لفظًا في مخاطبة. بل تأتي فصوله مبتكرة مبتدعة مبتدهة، لا مفتكرة بالعرف والعرفان، معرفة لا نكرة.
وكان الكرام في ظله يقيلون، ومن عثرات النوائب بفضله يستقيلون،