والصيام، والتسبيح، عفيفًا، متحريًا في المطعم والمشرب، عريًا عن التكبر. وكان ذا عقل متين ورأي رصين، مقتديًا بسيرة السلف، متشبهًا بالعلماء والصلحاء، روى الحديث وأسمعه بالإجازة، وكان من رآه شاهد من جلال السلطنة وهيبة الملك ما يبهره، فإذا فاوضه رأى من لطافته وتواضعه ما يحيره، ولقد حكى عنه من صحبه في حضره وسفره أنه لم يسمع منه كلمة فحش في رضاه ولا في ضجره، وإن أشهى ما إليه كلمة حق يسمعها، أو إرشاد إلى سنة يتبعها، يؤاخي الصالحين ويزورهم، وإذا احتلم مماليكه أعتقهم، وزوج ذكرانهم بإناثهم ورزقهم. ومتى تكررت الشكاية من ولاته عزلهم. وأكثر ما أخذه من البلدان تسلمه بالأمان. وكان كلما فتح الله عليه فتحًا، وزاده ولاية، أسقط عن رعيته قسطًا، حتى ارتفعت عنهم الظلامات والمكوس، واتضعت في جميع ولايته الغرامات والنحوس.
وقال أبو الفرج ابن الجوزي: نور الدين ولي الشام سنين، وجاهد الثغور، وانتزع من أيدي الكفار نيفًا وخمسين مدينة وحصنًا، وبنى مارستانًا في الشام، فأنفق عليه مالًا، وبنى بالموصل جامعًا غرم عليه سبعين ألف دينار؛ ثم أثنى عليه. وقال: كان يتدين بطاعة الخلافة، وترك المكوس قبل موته؛ وبعث جنودًا فتحوا مصر. وكان يميل إلى التواضع، ومحبة العلماء والصلحاء، وكاتبني مرارًا. وأحلف الأمراء على طاعة ولده بعده، وعاهد ملك الفرنج، صاحب طرابلس، وقد كان في قبضته أسيرًا، على أن يطلقه بثلاثمائة ألف دينار وخمسمائة حصان، وخمسمائة زردية، ومثلها تراس إفرنجية، ومثلها قنطوريات، وخمسمائة أسير مسلمين، وبأنه لا يغير على بلاد المسلمين سبع سنين وسبعة أشهر وسبعة أيام. وأخذ منه في قبضته على الوفاء بذلك مائة من كبار أولاد الفرنج وبطارقتهم، فإن نكث أراق دماءهم. وعزم على فتح بيت المقدس، فتوفي في شوال. وكانت ولايته ثمانيًا وعشرين سنة.
وقال الموفق عبد اللطيف: كان نور الدين لم ينشف له لبد من الجهاد، وكان يأكل من عمل يده، ينسخ تارة، ويعمل أغلافًا تارة، ويلبس الصوف،