للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ذلك، وكشف لي جميع ما كان يشكل علي، وكنت إذا غبت عنه لطلب العلم ورجعت إليه يقول: أيش جاء بك إلينا؟ أنت فقيه، مر إلى الفقهاء، وأنا أسكت، فلما كان يوم جمعة، خرجت مع الجماعة معه إلى الصلاة في شدة البرد، فلما وصلنا إلى قنطرة النهر، فدفعني ألقاني في الماء، فقلت: غسل الجمعة، بسم الله، وكان علي جبة صوف، وفي كمي أجزاء، فرفعت كمي لئلا تهلك الأجزاء، وخلوني ومشوا، فعصرت الجبة، وتبعتهم، وتأذيت من البرد كثيرا، وكان الشيخ يؤذيني ويضربني، وإذا غبت وجئت يقول: قد جاءنا اليوم الخبز الكثير والفالوذج، وأكلنا وما خبأنا لك وحشة عليك، فطمع في أصحابه وقالوا: أنت فقيه، أيش تعمل معنا؟ فلما رآهم الشيخ يؤذونني غار لي، وقال لهم: يا كلاب، لم تؤذونه؟ والله ما فيكم مثله، وإنما أؤذيه لأمتحنه، فأراه جبلا لا يتحرك، ثم بعد مدة قدم رجل من همذان يقال له يوسف الهمذاني، وكان يقال إنه القطب، ونزل في رباط؛ فلما سمعت به مشيت إلى الرباط، فلم أره، فسألت عنه، فقيل: هو في السرداب، فنزلت إليه، فلما رآني قام وأجلسني ففرشني، وذكر لي جميع أحوالي، وحل لي المشكل علي، ثم قال لي: تكلم على الناس، فقلت: يا سيدي أنا رجل أعجمي قح أخرس، أيش أتكلم على فصحاء بغداد؟ فقال لي: أنت حفظت الفقه وأصوله، والخلاف والنحو واللغة وتفسير القرآن، لا يصلح لك أن تتكلم؟ اصعد على الكرسي، وتكلم على الناس، فإني أرى فيك عذقا سيصير نخلة.

قال: وقال لي الشيخ عبد القادر: كنت أؤمر وأنهى في النوم واليقظة، وكان يغلب علي الكلام، ويزدحم على قلبي إن لم أتكلم حتى أكاد أختنق، ولا أقدر أن أسكت، وكان يجلس عندي رجلان وثلاثة يسمعون كلامي، ثم تسامع الناس بي، وازدحم علي الخلق، حتى صار يحضر المجلس نحو من سبعين ألفا.

وقال لي: فتشت الأعمال كلها، فما وجدت فيها أفضل من إطعام الطعام، أود لو أن الدنيا بيدي فأطعمها الجياع.

<<  <  ج: ص:  >  >>