النّاصر يشق الصفوف، وكلَّم أحمد بن حجّي، وكان أبوه حجّي صاحباً للنّاصر وله عليه أيادٍ، فانقاد له. ثمّ جاء النّاصر ونزل بالحلّة، وقُرِّر له راتبٌ يسير، ولم يحصل له مقصود. فجاء إلى قرقسياء ومنها إلى تيه بني إسرائيل، وانضمّ إليه عربان، وذلك في أوائل سنة ستٍّ هذه، أو قُبيل ذلك، فخاف المغيث منه فراسله وأظهر له المودّة، وخدعه المغيث إلى أن قبض عليه وعلى من معه من أولاده، وحبسه بطور هارون، فبقي به ثلاث ليالٍ. واتّفق أنّ المستعصم بالله دهمه أمر التّتار فنفَّذ إلى صاحب الشّام يستمدُّه، ويطلب منه جيشاً يكون عليهم النّاصر داود، فبعث صاحب الشّام الملك النّاصر يطلب النّاصر من المغيث، فأخرجه المغيث، فقدِم دمشق ونزل بقرية البُويْضا بقرب البلد، وأخذ يتجهَّز للمسير، فلم ينْشب أنْ جاءت الأخبار بما جرى على بغداد، فلا قوّة إلاّ بالله. وعرض طاعونٌ بالشّام عقيب ما تمّ على العراق، فطُعن النّاصر في جنْبه.
قال ابن وصل: وكثُر الطّاعون بالشّام مع بُعْد مسافة بغداد، حكى جالينوس أنّه وقعت ملحمة في بلاد اليونان فوقع الوباء بسببها في بلاد النّوبة مع بُعد المسافة.
قال ابن واصل: حكى لي عبد الله بن فضل أحد ألزام النّاصر داود قال: اشتدّ الوباء فتسخّطنا به، فقال لنا النّاصر: لا تفعلوا، فإنّه لمّا وقع بعَمَواس زمن عمر رضي الله عنه قال بعض النّاس: هذا رجز. فذكر الخبر بطوله، وأنّ معاذاً قال: اللهم أدْخل على آل معاذ منه أوْفى نصيب. فمات معاذ وابنُه. ثمّ ابتهل النّاصر وقال: اللهم اجعلنا منهم وارزُقنا ما رزقتهم. ثمّ أصبح من الغد أو بعده مطعوناً. قال عبد الله: وكنت غائباً فجئت إليه وهو يشكو ألماً مثل طعن السِّيف في جنْبه الأيسر.
قال ابن واصل: وحُكى لي ولدهُ المظفَّر غازي أنّ أباه سكن جنبه الأيسر فنام، ثمّ انتبه فقال: رأيت جنْبي الأيسر يقول للأيمن: أنا صبرت لنوبتي، واللّيلة نوبتك، فاصبر كما صبرْت. فلما كان عشيّةً شكا ألماً تحت جنْبه الأيمن، وأخذ يتزايد، فبينما أنا عنده بين الصّلاتين وقد سقطت قواه، إذْ أخذته سنةٌ فانتبه وفرائصُه ترعد، فقال لي: رأيت النّبي صلى الله عليه وسلم والخِضر عليه السّلام، فدخلا إلي، وجلسا عندي، ثمّ انصرفا. فلمّا كان في آخر النّهار قال: ما بقي في رجاء، فتهيّأ في تجهيزي. فبكيت وبكى الحاضرون، فقال: لا تكن