أرناط صاحب الشقيف صيدا إلى خدمة السّلطان فخلع عليه واحترمه، وكان من أكبر الفرنج وكان يعرف العربية، وله معرفة بالتواريخ، فسلم الحصن من غير تعب وقال: لا أقدر أُساكن الفرنج، والتمس المُقام بدمشق، ثم بدا منه غدر فقبض عليه وحبسه بدمشق، ووكل بالحصن من يحاصره، ثم بلغ السّلطان أن الفرنج قد جمعوا وحشدوا وجيشوا من مدينة صور، وساروا لحصار صيدا وعكا ليستردوها، فسار إليهم فالتقاهم، فظهر الفرنج وقُتل في سبيل الله طائفة. ثم كرّ المسلمون عليهم فردوهم حتى ازدحموا على جسرٍ هناك، فغرق مائتا نفس.
ثم سار السّلطان إلى تبنين فرتب أمورها، وسار إلى عكا فأشرف عليها، وقرر بها أميرين: سيف الدّين عليّ المشطوب الكردي، وبهاء الدّين قراقوش الخادم الأبيض، وعاد فلم يلبث أن نازلت الفرنج عكا، وجاءت من البرّ والبحر، فسار السّلطان حتى نزل قبالتهم وحاربهم مراتٍ عديدة، وطال القتال عليهم، واشتد البلاء، وقتل خلقٌ من الفرنج والمسلمين إلى أن دخلت السنة الآتية والأمر كذلك.
وفيها وُلي نيابة دمشق الأمير بدر الدّين مودود أخو الملك العادل لأمه.
وقال ابن الأثير: اجتمع بصور عالم لا يُعد ولا يُحصى، ومن الأموال ما لا يَفنى. ثم إن الرهبان والقُسوس وجماعة من المشهورين لبسوا السواد، وأظهروا الحزن على بيت المقدس، فأخذهم بترك القدس، ودخل بهم بلاد الفرنج يطوف بهم ويستنفرون الفرنج، وصوروا صورة المسيح وصورة النبي صلى الله عليه وسلم وهو يضرب المسيح وقد جرحه، فعظم ذلك على الفرنج، وحشدوا وجمعوا حتى تهيأ لهم من الرجال والأموال ما لا يتطرق إليه الإحصاء، فحدثني رجلٌ من حصن الأكراد من أجناد أصحابه الذين سلموه إلى الفرنج قديماُ، وكان قد تاب وندم على ما كان منه في الغارة مع الفرنج على الإسلام، قال: دخلت مع جماعة من الفرنج من أهل حصن الأكراد إلى البلاد البحرية في أربعة شواني يستنجدون. قال: فانتهى بنا الطّواف إلى رومية الكبرى، فخرجنا منها وقد ملأنا الشواني نُقْرة.