أعتقد أن شخصاً ممن رأيته، حصل له من الكمال في العلوم والصفات الحميدة التي يحصل بها الكمال، سواه، فإنه - رحمه الله - كان كاملاً في صورته ومعناه، من حيث الحسن والإحسان، والحلم والسؤدد، والعلوم المختلفة، والأخلاق الجميلة، والأمور التي ما رأيتها كملت في غيره، وقد رأيت من كرم أخلاقه، وحُسن عشرته، ووفور حلمه، وكثرة علمه، وغزير فطنته، وكمال مروءته، وكثرة حَيائه، ودوام بِشره، وعزوف نفسه عن الدنيا وأهلها، والمناصب وأربابها، ما قد عَجَزَ عنه كبار الأولياء، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال: ما أنعم الله على عبد نعمةً أفضل من أن يُلهمه ذِكره، فقد ثبت بهذا أن إلهام الذكر أفضل من الكرامات، وأفضل الذكْر ما يتعدى نفعه إلى العباد، وهو تعليم العلم والسنّة، وأعظم من ذلك وأحسن ما كان جِبِلّة وطبعاً، كالحلم والكرم والعقل والحياء، وكان الله قد جَبله على خُلُق شريف، وأفرغ عليه المكارم إفراغاً، وأسبغ عليه النعم، ولطف به في كل حال.
قال الضياء: وكان لا يكاد يناظر أحداً، إلا وهو يتبسّم، فسمعت بعض الناس يقول: هذا الشيخ يقتل خصمه بتبسّمه،
وسمعت الفقيه أحمد بن فهْد العَلثي يقول: ناظر الموفّق لابن فَضلان، يعني: يحيى بن محمد الشافعي، فقطعه الموفق.
قلت: وكان ابن فضلان يُضرب به المثل في المناظرة.
وأقام الموفَّق مدة يعمل حلقة يوم الجمعة بجامع دمشق، يناظر فيها بعد الصلاة، ويجتمع إليه أصحابنا، وغيرهم، ثم ترك ذلك في آخر عمره.
وكان يَشتغل عليه الناس من بُكرة إلى ارتفاع النهار، ثم يُقرأ عليه بعد الظهر، إما الحديث وإما من تصانيفه، إلى المغرب، وربما قُرِئ عليه بعد المغرب، وهو يتعشّى، وكان لا يُري لأحد ضَجراً، وربما تضرّر في نفسه ولا يقول لأحد شيئاً، فحدّثني ولده أبو المجد، قال: جاء إلى والدي يوماً جماعة يقرؤون عليه، فطوّلوا، ومن عادته أن لا يقول لأحد شيئاً، فجاء هذا القِطّ الذي لنا، فأخذ القلم الذي يُصلحون به بفمه، فكسرَه، فتعجّبوا من ذلك وقالوا: لعلّنا أطلْنا، وقاموا، واشتغل الناس عليه مدة بـ الخِرَقي والهداية