أنت تعلم أن داري تراث قديم وفيها سعة، أريد أن تسكنها معي، وأتولى خدمتك بنفسي، وأشاركك في الحلو والمر. قال: لا أفعل، لأني قد طلقت الدنيا بالأمس، أفأراجعها اليوم. ولأن المطلق إنما يطلق المرأة بعد أن يعرف سوء أخلاقها، وقد خبرها. وليس من العقل أن يرجع إلى ما قد عرف من المكروه. وفي الحديث: لا يلدغ المؤمن من جحرٍ مرتين.
قال القاضي يونس: وأخبرني ثقة من إخواني، عن رجل كان يصحبه أنه قال: بت عنده في مسجدٍ كان كثيراً ما يأوي إليه بقرب حوانيت ابن نصير بقرطبة. فلما كان في الليل تذكر صديقاً له من الصالحين فقال: وددت أن نكون معه الليلة. فقلت: وما يمنعنا من ذلك؟ ليست علينا كسوة نخاف عليها، إنما هي هذه الجبيبات، فاخرج بنا نحوه. فقال لي: وأين العلم، وهل لنا أن نمشي ليلاً ونحن نعلم أن الإمام الذي ملكه الله أمر المسلمين في هذه البلدة قد منع من المشي ليلاً، وطاعته لنا لازمةٌ؟ ففي هذا نقض للطاعة وخروج عما يلزم جماعة المسلمين. فعجبت من فقهه في ذلك.
قال القاضي يونس بن عبد الله: كان أبو وهب رحمه الله جليلاً في الخير والزهد. طرأ إلى قرطبة وبقي بها إلى أن مات. ولم يدر أحدٌ من أين هو، ولا إلى من ينتمي. وكان يقال: إنه من بني العباس، إلا أن ذلك لم يعرف من قبله. وكان يقصده أهل الإرادة عندنا بقرطبة ويألفونه ويأنس إلى من عرف منهم بطول التردد. وإذا أتاه من ينكر من الناس تباله وأوهمه أنه مدخول العقل. ولم يكن يخبر أحداً باسمه، وإنما صاح صائحٌ إلى غيره: يا أبا وهبٍ؛ فالتفت هو فعرفت كنيته. وكان إذا قيل له: ابن من أنت؟ يقول: أنا ابن آدم؛ ولا يزيد. وأخبرني بعض من صحبه أنه كان يفضي منه جليسه إلى علمٍ وحلمٍ وتفنن في العلم والفقه والحديث واللغة.
قال القاضي: توفي في شعبان سنة أربعٍ وأربعين وثلاث مائة.
وعن أبي جعفر الكندي الزاهد قال: كان يوجد تحت حصر المسجد الذي يأوي إليه أبو وهب من حب الحبريول مراراً. وربما كان قوته