تأخرت عن مصر سرت أنا بنفسي، فإن ملكها الفرنج لا يبقى معهم بالشام مقام. فالتفت إلي عمي وقال: تجهز يا يوسف. فكأنما ضرب قلبي بسكين! فقلت: والله لو أعطيت ملك مصر ما سرت إليها، فلقد قاسيت بالإسكندرية من المشاق ما لا أنساه. فقال عمي لنور الدين: لا بد من مسيره معي، فترسم له. فأمرني نور الدين وأنا أستقيله، وانقضى المجلس. ثم قال نور الدين: لا بد من مسيرك مع عمك. فشكوت الضائقة، فأعطاني ما تجهزت به، وكأنما أساق إلى الموت. وكان نور الدين مهيبا مخوفا مع لينه ورحمته، فسرت معه، فلما توفي أعطاني الله من الملك ما كنت أتوقعه.
رجعنا إلى ذكر مسير أسد الدين: فجمع الجيوش وسار إلى دمشق، وعرض الجيش، ثم سار إلى مصر في جيش عرمرم، فقيل: كانوا سبعين ألف فارس وراجل. فتقهقر الفرنج لمجيئه، ودخل القاهرة في ربيع الآخر، وجلس في الدست، وخلع عليه العاضد خلع السلطنة، وولاه وزارته، وهذه نسخة العهد:
من عبد الله أبي محمد عبد الله بن يوسف العاضد لدين الله أمير المؤمنين إلى السيد الأجل، الملك المنصور، سلطان الجيوش، ولي الأئمة، مجير الأمة، أسد الدين، هادي دعاة المؤمنين، أبي الحارث شيركوه العاضدي، عضد الله به الدين، وأمتع ببقائه أمير المؤمنين، وأدام قدرته وأعلى كلمته، سلام عليك؛ فإنا نحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو، ونسأله أن يصلي على محمد سيد المرسلين وعلى آله الطاهرين والأئمة المهديين. . . ثم أتبع ذلك بخطبتين بليغتين، وأنه ولاه الوزارة، وفوض إليه تدبير الدولة. وكتب هو في أعلى المنشور بخطه: هذا عهد لم يعهد لوزير بمثله، فتقلد أمانة رآك أمير المؤمنين أهلا لحملها، والحجة عليك عند الله بما أوضحه لك من مراشد سبله، فخذ كتاب أمير المؤمنين بقوة، واسحب ذيل الفخار بأن اعتزت بك بنو النبوة، واتخذ للفوز سبيلا، (ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها وقد جعلتم الله عليكم كفيلا).
وكان هذا قبل مقتل شاور؛ وهو أن أسد الدين لما دخل القاهرة قام شاور