في كوني أخلّفه بعدي صحائف؟ فاستخرت الله تعالى، واستأذنت أعيان شيوخي ورؤساء البلد، وطفت عليهم، فكلٌّ قال: ومن أحق بهذا منك؟ فشرعت في ذلك في سنة ثلاث وثلاثين.
وقال عمر بن الحاجب الحافظ: حكى لي زين الأمناء أنّ الحافظ لمّا عزم على الرحلة اشترى جملًا، وتركه بالخان. فلما رحل القفل تجهّز، وخرج فوجد الجمال قد مات. فقال له الجماعة الذين خرجوا لوداعه: ارجع؛ فما هذا فأل مبارك! وفنّدوا عزمه، فقال: والله، لو مشيت راجلًا لا أثنيت عزمي، وحمل خرجه لما شرع، وتبع الركب، واكترى منهم في القصير. وكانت طريقه مباركة.
وقال أبو محمد القاسم: قال لي والدي: لمّا قدمت في سفري: قال لي جدّي القاضي أبو المفضّل يحيى بن علي: اجلس إلى سارية من هذه السواري حتّى نجلس إليك. فلمّا عزمت على الجلوس اتّفق أنّه مرض ولم يقدر له بعد ذلك خروج إلى المسجد.
وكان أبي رحمه الله قد سمع أشياء لم يحصّل منها نسخًا اعتمادًا على نسخ رفيقه الحافظ أبي عليّ ابن الوزير، وكان ما حصّله ابن الوزير لا يحصّله أبي وما حصله أبي لا يحصله ابن الوزير. فسمعته يقول: رحلت، وما كأني رحلت.
كنت أحسب أن ابن الوزير يقدم بالكتب مثل الصحيحين، وكتب البيهقي والأجزاء، فاتفق سكناه بمرو، وكنت أؤمل وصول رفيق آخر يوسف بن فارو الجياني، ووصول رفيقنا المرادي، وما أرى أحدًا منهم قدم. فلا بد من الرحلة ثالثًا وتحصيل الكتب والمهمات. فلم يمض إلا أيام يسيرة حتى قدم أبو الحسن المرادي، فأنزله أبي عندنا، فقدم بأربعة أسفاط كتب مسموعة، ففرح أبي بذلك، وكفاه الله مؤونة السفر.
وأقبل على النسخ والاستنساخ، وقابل، وبقي من مسموعاته نحو ثلاثمائة جزء، فأعانه عليها ابن السمعاني، ونقل إليه منها جملةً حتى لم يبق عليه أكثر من عشرين جزءًا. وكان كلما حصل له جزء منها كأنه قد حصل على ملك الدنيا.