الهرب أهون من الغضب، والموت أهون من الذل، النفير النفير قبل أن ينقطع الشمل ويعسر المهرب، ثم قام آخر من كلب فقال نحو ذلك، فسار معه عامة أهل الشام، وتفللوا، وأقبل نصر بن شبيب في الزواقيل، وهو يقول:
فرسان قيس اصبري للموت لا ترهبن عن لقاء القوت دعي التمني بعسى وليت
ثم حمل هو وأصحابه، فقاتل قتالا شديدا، وكثر القتل والبلاء في الزواقيل، وحملت الأبناء فانهزمت الزواقيل.
ثم توفي عبد الملك في هذه الأيام، فنادى الحسين بن علي بن عيسى في الجند، فصير الرجالة في السفن، والفرسان على الظهر، ووصلهم حتى أخرجهم من بلاد الجزيرة في رجب، ودخل بغداد، فلما كان في جوف الليل طلبه الأمين، فقال للرسول: ما أنا بمغن ولا مسامر ولا مضحك، ولا وليت له عملا، فلأي شيء يريدني؟ انصرف فمن الغد آتيه. قال: فأصبح الحسين فوافى باب الجسر، واجتمع إليه الناس، فأمر بإغلاق الباب الذي يخرج منه إلى عبيد الله بن علي وباب سوق يحيى، وقال: يا معشر الأبناء، إن خلافة الله لا تجاور بالبطر، ونعمه لا تستصحب بالتجبر، وإن محمدا يريد أن يزيغ أديانكم، وينكث بيعتكم، ويفرق أمركم، وتالله إن طالت يده، وراجعه من أمره قوة، ليرجعن وبال ذلك عليكم، ولتعرفن ضرره، فاقطعوا أثره قبل أن يقطع آثاركم، وضعوا عزه قبل أن يضع عزكم.
ثم أمر الناس بعبور الجسر، فعبروا حتى صاروا إلى سكة باب خراسان، واجتمعت الحربية، وأهل الأرباض مما يلي باب الشام، فتسرعت خيول من خيول الأمين من الأعراب وغيرهم إلى الحسين، فاقتتلوا قتالا شديدا، ثم استظهر عليهم الحسين وتفرقوا، فخلع الحسين محمدا لإحدى عشرة ليلة خلت من رجب، وبايع للمأمون من الغد، ثم غدا إلى محمد. فوثب العباس بن موسى بن عيسى الهاشمي فدخل قصر الخلد، فأخرج منه محمدا إلى قصر المنصور، فحبسه هناك إلى الظهر، وأخرج أمه، أم جعفر، بعد أن أبت، وقنعها بالسوط وسبها، فأدخلت إلى مدينة المنصور.