قاطبةً إلاّ من شاء الله، وأن المسافر ليمرّ بالقرية فلا يرى فيها نافخ نار، وتجد البيوت مفتَّحة وأهلها موتى، حدَّثني بذلك غير واحد، وقال لي بعضهم: إنّه مرّ ببلدٍ ذكر لنا أنّ فيها أربع مائة نول للحياكة، فوجدناها خراباً، وأنّ الحائك في جورة حياكته ميّت، وأهله موتى حوله فحضرني قوله تعالى:{إِنْ كَانَتْ إِلا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ}
قال: ثم انتقلنا إلى بلدٍ آخر، فوجدناه ليس به أنيس، واحتجنا إلى الإقامة به لأجل الزّراعة، فاستأجرنا من ينقل الموتى ممّا حولنا إلى النيل، كلّ عشرة بدرهم، وأخبرت عن صيادٍ بفُوهة تِنَّيس أنّه مرّ به في بعض يوم أربع مائة آدميّ يقذف بهم النّيل إلى البحر، وأما أنا فمررت على النّيل، فمرّ بي في ساعة نحو عشرة موتى.
وأمّا طريق الشّام فصارت منزرعةً ببني آدم، وعادت مأدبة بلحومهم للطّير والسِّباع، وكثيرًا ما كانت المرأة تتخلّص من صِبيتها في الزّحام، فيتضورون حتى يموتوا، وأما بيع الأحرار فشاع وذاع، وعرض عليَّ جاريتان مراهقتان بدينار واحد، وسألتني امرأة أن أشتري ابنتها وكانت جميلة دون البلوغ بخمسة دراهم، فعرّفتها أن ذلك حرام فقالت: خذها هدية، وقد أُبيع خلقٌ، وجلبوا إلى العراق، وخراسان، هذا، وهم عاكفون على شهواتهم، منغمسون في بحر ضلالاتهم، كأنهم مُستثنون، وكانوا يزْنون بالنساء حتى إنّ منهم من يقول: إنّه اقتض خمسين بكرًا، ومنهم من يقول: سبعين، كلّ ذلك بالكسر.
وأمّا مصر فخلا مُعظمها، وأما بيوت الخليج وزقاق البركة والمقس وما تاخم ذلك، فلم يبق فيها بيتٌ مسكون، ولم يبق وقود النّاس عِوض الأحطاب إلا خشب السّقوف والبيوت الخالية، وقد استغنى طائفة كبيرة من النّاس في هذه النَّوبة، وأمّا النيل فإنه اخترق في برمودة اختراقاً كبيرا، وصار المقياس في أرض جزر، وانحسر الماء عنه نحو الجزيرة، وظهر في وسطه جزيرة عظيمة ومقطَّعات أبنية، وتغيّر ريحه وطعمه، ثم تزايد التّغيُّر، ثم