لعل خيرَ ما يصور منزلة الذهبي العلمية واتجاهاته الفكرية هو دراسة آثاره الكثيرة التي خَلَّفها، وتبيان قيمتها مقارنةً بمثيلاتها، ومدى اهتمام العلماء والدارسينَ بها في العصورِ التالية، والمساهمة الفعلية التي قَدَّمتها للحضارة الإسلامية (١).
وسيرة الذهبي العلمية، استنادًا إلى آثاره، ذات وجوهٍ متعددة يَستبينها الباحثُ الفاحصُ من نوعية تلك الآثار.
وأول ما يلاحظ الدارسُ العَدَد الضخمَ من الكتبِ التي اختصرها والتي تربو على خمسين كتابًا، معظمها من الكتب الكبيرةِ التي اكتسبت أهميةً عظيمة عند الدارسين، والتي تُعَدُّ من بين أحسن الكتبِ التي وضعت في عصرها وأكثرها أصالةً، مما يدلُّ على استيعاب الذهبي لمؤلفات السابقين، ومعرفته بالجيد الأصيلِ منها، وتمتعه بقابليةٍ ممتازة على الانتقاء.
ومما يثيرُ الانتباهَ أنَّ مختصرات الذهبي لم تكن اختصارات عادية يغلب عليها الجمودُ والنقلُ، بل إنَّ المطلع عليها الدارس لها برويةٍ وإمعان يجد فيها إضافاتٍ كثيرة، وتعليقاتٍ نفيسة، واستدراكاتٍ بارعة، وتصحيحاتٍ وتصويباتٍ لمؤلف الأصل إذا شعر بوهمه أو غلطه، ومقارناتٍ تَدلُّ على معرفته وتبحره في فن الكتاب المختصر؛ فهو اختصارٌ مع سَدِّ نقصٍ وتحقيق ونقد وتعليق وتدقيق، وهو أمر لا يتأتى إلا للباحثين البارعين الذي أُوتُوا بسطةً في العلم ومعرفة في فنونه.
والذهبي حين يُضيفُ إلى الكتابِ المختصر يشعر بضرورة ذلك لسد نقص
(١) استوفينا آثار الذهبي في كتابنا: "الذهبي ومنهجه في كتابه تاريخ الإسلام" المطبوع بالقاهرة سنة ١٩٧٦ م ص ١٣٩ - ٢٧٦ فراجعه إن شئت استزادة.