ومن كتاب فاضلي إلى الديوان كان الفرنج قد ركبوا من الأمر نكرا، واقتضوا من البحر بكرا، وعمروا مراكب حربية شحنوها بالمقاتلة والأسلحة والأزواد، وضربوا بها سواحل اليمن والحجاز، وأثخنوا وأوغلوا في البلاد، واشتدت مخافة أهل تلك الجوانب، بل أهل القبلة، لما أومض إليهم من جلل العواقب.
وما ظن المسلمون إلا أنها الساعة، وقد نشر مطوي أشراطها، وانتظر غضب الله لفناء بيته المحرم، ومقام خليله الأكرم، وضريح نبيّه الأعظم صلّى الله عليهما وسلّم. ورجوا أن تشحذ البصائر آية كآية هذا البيت إذ قصده أصحاب الفيل، ووكلوا إلى الله الأمر، فكان حسبهم ونعم الوكيل.
وكان للفرنج مقصدان: أحدهما قلعة أيلة، والآخر الخوض في هذا البحر الذي تجاوره بلادهم من ساحله. وانقسموا فريقين: أما الذين قصدوا أيلة فإنهم قدروا أن يمنعوا أهلها من مورد الماء، وأما الفريق القاصد سواحل الحجاز واليمن فقدروا أن يمنعوا طريق الحاج عن حجه، ويحول بينه وبين فجّه، ويأخذ تجار اليمن وكارم وعدن ويلم بسواحل الحجاز فيستبيح، والعياذ بالله، المحارم.
وكان الأخ سيف الدين بمصر قد عمر مراكب، وفرقها على الفرقتين، وأمرهم بأن تطوى وراءهم الشقتين. فأما السائرة إلى قلعة أيلة فإنها انقضت على مرابطي الماء انقضاض الجوارح على بنات الماء، وقذفتها قذف شهب السماء، وكسرت أكثر مقاتلتها، إلا من تعلق بهضبة وما كاد، أو دخل في شعب وما عاد؛ فإن العربان اقتصوا آثارهم، والتزموا إحضارهم.
وأما السائرة إلى بحر الحجاز فتمادت في الساحل الحجازي، فأخذت تجارًا، وأخافت رفاقا، ودلها على عورات البلاد من هو أشد كفرًا ونفاقا. وهناك وقع عليها أصحابنا، وأخذت المراكب بأسرها، وفرّ فرنجها، فسلكوا في الجبال مهاوي المهالك، ومعاطن المعاطب.
وركب أصحابنا وراءهم خيل العرب، يقتلون ويأسرون، حتى لم يتركوا مخبرًا، ولم يبقوا لهم