ونقل بعض العلماء من كتاب حفيده عبد الرحمن بن أحمد بن بقيّ: سمعت أبي يقول: رحل أبي من مكّة إلى بغداد، وكان جلَّ بغيته ملاقاة أحمد بن حنبل، قال: فلمّا قربت بلغتني المحنة، وأنّه ممنوع، فاغتممت غمّا شديدا، فاحتللت بغداد واكتريت بيتا في فندق، ثمّ أتيت الجامع، وأنا أريد أن أجلس إلى النّاس، فدفعت إلى حلقةٍ نبيلة، فإذا برجلٍ يتكلَّم في الرجال، فقيل لي: هذا يحيى بن معين، ففرجت لي فرجةً، فقمت إليه، فقلت: يا أبا زكريّا - رحمك الله - رجل غريب ناءٍ عن وطنه، يحبُّ السُّؤال فلا تستجفني، فقال: قل، فسألت عن بعض من لقيته، فبعضا زكّى، وبعضا جرَّح. فسألته عن هشام بن عمّار، فقال لي: أبو الوليد صاحب صلاة دمشق، ثقة وفوق الثقة، لو كان تحت ردائه كبر أو متقلدا كبرا ما ضرّه شيئا لخيره وفضله. فصاح أصحاب الحلقة: يكفيك - رحمك الله - غيرك له سؤال. فقلت وأنا واقف على قدم: اكشف عن رجلٍ واحد: أحمد بن حنبل. فنظر إليَّ كالمتعجّب، فقال لي: ومثلنا نحن نكشف عن أحمد؟ ذاك إمام المسلمين وخيرهم وفاضلهم. فخرجت أستدلّ على منزل أحمد، فدللت عليه، فقرعت بابه، فخرج إليَّ، فقلت: يا أبا عبد الله رجل غريب نائي الدّار، هذا أول دخولي هذا البلد، وأنا طالب حديث، ومقيَّد سنّة، ولم تكن رحلتي إلاّ إليك. فقال: ادخل الأصطوان، ولا يقع عليك عين. فدخلت، فقال لي: وأين موضعك؟ قلت: المغرب الأقصى. قال: إفريقيّة؟ فقلت له: أبعد من إفريقيّة، أجوز من بلدي البحر إلى إفريقيّة، الأندلس. قال: إن موضعك لبعيد، وما كان شيء أحبُّ إليَّ من أن أحسن عون مثلك، غير أنيّ ممتحن بما لعلّه قد بلغك، فقلت له: بلى، لقد بلغني، وهذا أوّل دخولي، وأنا مجهول العين عندكم، فإن أذنت لي أن آتي كلَّ يوم في زيّ السّؤال، فأقول عند الباب ما يقوله السؤال، فتخرج إلى هذا الموضع، فلو لم تحدثني كلّ يوم إلا بحديث واحد لكان لي فيه كفاية. فقال لي: نعم، على شرط أن لا تظهر في الحلق، ولا عند المحدِّثين، فقلت: لك شرطك. فكنت آخذ عودا بيدي، وألف رأسي بخرقةٍ مدنسَّة وآتي بابه، فأصيح: الأجر، رحمكم الله، والسُّؤال هناك كذلك، فيخرج إليَّ