فلما وصلت العساكر وأهل دمياط إلى السلطان، حنق على الكنانيين الشجعان الذين كانوا بها، وأمر بهم فشنقوا جميعاً، ثم رحل بالجيش وسار إلى المنصورة، فنزل بها في المنزلة التي كان أبوه نزلها، وبها قصر بناه الكامل. ووقع النفير العام في المسلمين، فاجتمع بالمنصورة أمم لا يحصون من المطوعة والعربان والحرافشة، وشرعوا في الإغارة على الفرنج ومناوشتهم وتخطفهم، واستمر ذلك أشهراً، هذا والسلطان يتزايد مرضه، والأطباء قد آيسته لاستحكام السل به.
وأما الكرك فإن صاحبها سافر إلى بغداد، فاختلف أولاده، وسار أحدهم إلى الملك الصالح، فسلم إليه الكرك، ففرح بها السلطان مع ما هو فيه من الأمراض، وزينت بلاده، وبعث إليها الطواشي بدر الدين الصوابي نائباً، وقدم عليه آل الناصر داود فبالغ في إكرامهم وأقطعهم أخبازاً جليلة.
إلى أن قال ابن واصل في سيرة الصالح: وكان مهيباً، عزيز النفس، أبيها، عاليها، حيياً، عفيفاً، طاهر اللسان والذيل، لا يرى الهزل ولا العبث، شديد الوقار، كثير الصمت. اشترى من المماليك الترك ما لم يشتره أحد من أهل بيته، حتى صاروا معظم عسكره، ورجحهم على الأكراد وأمرهم، واشترى - وهو بمصر- خلقاً منهم وجعلهم بطانته والمحيطين بدهليزه وسماهم البحرية.
حكى لي حسام الدين ابن أبي علي أن هؤلاء المماليك مع فرط جبروتهم وسطوتهم كانوا أبلغ من يعظم هيبة السلطان، فكان إذا خرج وشاهدوا صورته يرعدون خوفاً منه، وأنه لم يقع منه في حال غضبه كلمة قبيحة قط، أكثر ما يقول إذا شتم: يا متخلف. وكان كثير الباه لجواريه فقط، ولم يكن عنده في آخر وقت غير زوجتين، إحداهما شجر الدر، والأخرى بنت العالمة تزوجها بعد مملوكه الجوكندار. وكان إذا سمع الغناء لا يتزعزع ولا يتحرك، وكذلك الحاضرون يلتزمون حالته كأنما على رؤوسهم الطير. وكان لا يستقل أحد من أرباب دولته بأمر، بل يراجع بالقصص مع الخدام، فيوقع عليها بما يعتمده كتاب الإنشاء. وكان يحب أهل الفضل والدين، وما كان له ميل إلى