وقال أبو نعيم: أنبأنا الخلدي قال: سمعت الجنيد يقول: كان الحارث يجيء إلى منزلنا فيقول: اخرج معنا نصحر. فأقول: تخرجني من عزلتي وأمني على نفسي إلى الطرقات والآفات ورؤية الشهوات؟ فيقول: اخرج معي ولا خوف عليك. فأخرج معه. فكأن الطريق فارغ من كل شيء، لا نرى شيئا نكرهه. فإذا حصلت معه في المكان الذي يجلس فيه يقول: سلني.
فأقول: ما عندي سؤال. ثم تنثال علي السؤالات، فأسأله فيجيبني للوقت، ثم يمضي فيعملها كتبا.
وكان يقول لي: كم تقول: عزلتي أنسي، لو أن نصف الخلق تقربوا مني ما وجدت بهم أنسا، ولو أن النصف الآخر نأى عني ما استوحشت لبعدهم.
واجتاز بي الحارث يوما، وكان كثير الضر، فرأيت على وجهه زيادة الضر من الجوع. فقلت: يا عم، لو دخلت إلينا؟ قال: أو تفعل؟ قلت: نعم، وتسرني بذلك. فدخلت بين يديه، وعمدت إلى بيت عمي، وكان لا يخلو من أطعمة فاخرة، فجئت بأنواع من الطعام، فأخذ لقمة، فرأيته يلوكها ولا يزدردها. فوثب وخرج وما كلمني. فلما كان من الغد لقيته فقلت: يا عم، سررتني، ثم نغصت علي. قال: يا بني أما الفاقة فكانت شديدة، وقد اجتهدت في أن أنال من الطعام، ولكن بيني وبين الله علامة، إذا لم يكن الطعام مرضيا ارتفع إلى أنفي منه زفورة، فلم تقبله نفسي؛ فقد رميت تلك اللقمة في دهليزكم.
وقال ابن مسروق: قال حارث المحاسبي: لكل شيء جوهر، وجوهر الإنسان العقل، وجوهر العقل التوفيق.
قال: وسمعت الحارث يقول: ثلاثة أشياء عزيزة: حسن الوجه مع الصيانة، وحسن الخلق مع الديانة، وحسن الإخاء مع الأمانة.
ومن كلامه: ترك الدنيا مع ذكرها صفة الزاهدين. وتركها مع نسيانها صفة العارفين.