أحدهم فإنّ أباه خرج فلم يرجع، والآخر فأعطته امرأة درهمين ومضى معها، فلمّا توغّلت به مضائق الطُّرق استراب وامتنع، وشنّع عليها، فتركت دراهمها وانسلّت، وأمّا الثّالث فإنّ رجلًا استصحبه إلى مريضةٍ إلى الشَارع، وجعل في أثناء الطّريق يتصدَّق بالكِسَر ويقول: هذا وقت اغتنام الأجر، ثمّ أكثر حتّى ارتاب منه الطّبيب، ودخل معه دارًا خربة، فتوقّف في الدَّرج، وفتح الرجل فخرج إليه رفيقه يقول: هل حصل صيد ينفع؟ فجزع الطّبيب، وألقى نفسه إلى إصطبل، فقام إليه صاحب الإصطبل يسأله، فأخفى قصّته خوفًا منه أيضًا فقال: قد علمت حالك، فإنّ أهل هذا المنزل يذبحون النّاس بِالحيَل، ووجدنا بإطفيح عند عطّار عدّة خوابي مملوءة بلحوم الآدميّين في الماء والملح، فسألوه فقال: خفت دوام الجدب فيهزل النّاس، وكان جماعة قد أَوَوا إلى الجزيرة، فعُثِر عليهم، وطُلبوا ليُقتَلوا فهربوا، فأخبرني الثّقة أنّ الذّي وُجد في بيوتهم أربع مائة جمجمة.
ثمّ ساق غير حكاية، وقال: وجميع ما شاهدناه لم نتقصّده ولا تتبّعنا مظانّه، وإنّما هو شيء صادفناه اتّفاقاً، وحكى لي من أثق به أنه اجتاز على امرأةٍ وبين يديها ميّت قد انتفخ وانفجر، وهي تأكل من أفخاذه، فأُنكِر عليها، فزعمت أنّه زوجها.
ثم قال: وأشباه هذا كثير جدّاً، وممّا شاع أيضًا نبش القبور، وأكل الموتى، فأخبرني تاجر مأمون حين ورد من الإسكندريّة بكثرة ما عاين بها من ذلك، يعني من أكل بني آدم، وأنّه عاين خمسة أرؤس صغار مطبوخة في قِدر، وهذا المقدار كافٍ، وأعتقد أنّي قد قصّرت.
وأمّا موت الفقراء جوعًا فشيء لا يعلمه إلاّ الله تعالى، فالّذي شاهدناه بالقاهرة ومصر وهو أنّ الماشي لا يزال يقع قدمه أو بصره على ميت، أو مَن هو في السّياق، وكان يُرفع من القاهرة كلّ يوم من الميضأة ما بين مائة إلى خمس مائة، وأما مصر فليس لموتاها عدد، يُرمون ولا يُوارَون، ثمّ عجزوا عن رميهم، فبقوا في الأسواق والدّكاكين، وأما الضّواحي والقرى، فهلك أهلها