للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

للتصانيف، وإن كان في الظاهر متبجحا به.

ثم إن أبا حامد خرج إلى المعسكر، فأقبل عليه نظام الملك، وناظر الأقران بحضرته، فظهر اسمه، وشاع أمره، فولاه النظام تدريس مدرسته ببغداد، ورسم له بالمصير إليها، فقدمها، وأعجب الكل مناظرته، وما لقي الرجل مثل نفسه، ثم أقبل على علم الأصول، وصنف فيها وفي المذهب والخلاف، وعظمت حشمته ببغداد، حتى كانت تغلب حشمة الأمراء والأكابر، فانقلب الأمر من وجه آخر، وظهر عليه بعد مطالعة العلوم الدقيقة، وممارسة التصانيف طريق التزهد والتأله فترك الحشمة، وطرح الرتبة، وتزود للمعاد، وقصد بيت الله، وحج، ورجع على طريق الشام، وزار القدس، وأقام بدمشق مدة سنين، وصنف بها إحياء علوم الدين وكتاب الأربعين، والقسطاس، ومحك النظر، وغير ذلك.

وأخذ في مجاهدة النفس، وتغيير الأخلاق، وتهذيب الباطن، وانقلب شيطان الرعونة، وطلب الرياسة والتخلق بالأخلاق الذميمة، إلى سكون النفس، وكرم الأخلاق، والفراغ عن الرسوم، وتزيا بزي الصالحين.

ثم عاد إلى وطنه، لازمًا بيته، مشتغلًا بالتفكير، ملازمًا للوقت، فبقي على ذلك مدة، وظهرت له التصانيف، ولم يبد في أيامه مناقضة لما كان فيه، ولا اعتراض لأحد على مآثره، حتى انتهت نوبة الوزارة إلى فخر الملك، وقد سمع وتحقق بمكان أبي حامد وكمال فضله، فحضره وسمع كلامه، فطلب منه أن لا تبقى أنفاسه وفوائده عقيمة، لا استفادة منها ولا اقتباس من أنوارها، وألح عليه كل الإلحاح، وتشدد في الاقتراح إلى أن أجاب إلى الخروج، وقدم نيسابور، وكان الليث غائبًا عن عرينه، والأمر خافيًا في مستور قضاء الله ومكنونه، ورسم له بأن يدرس بها - بالمدرسة النظامية - فلم يجد بدًا من ذلك.

قال هذا كله وأكثر منه عبد الغافر بن إسماعيل في تاريخه، ثم قال: ولقد زرته مرارًا، وما كنت أحدس في نفسي مع ما عهدته في سالف الزمان عليه من الزعارة، وإيحاش الناس، والنظر إليهم بعين الازدراء، والاستخفاف بهم كبرًا وخيلاء واغترارًا بما رزق من البسطة في النطق، والخاطر، والعبارة،

<<  <  ج: ص:  >  >>