للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

قال عبد الواحد بن علي التّميميّ في كتاب المعجِب (١): صحّ عندي أنّه كان يحفظ أحد الصحيحين، غالب ظنّي أنّه البخاري. وكان سديد الملوكيّة، بعيد الهمّة، سخيًّا، جوادًا، استغنى الناس في أيّامه، وتموّلوا.

قال: ثم إنّه نظر في الفلسفة والطب، وحفظ أكثر الكتاب الملكيّ. وأمر بجمع كتب الفلاسفة، فأكثر منها وتطلّبها من الأقطار. وكان ممّن صحبه أبو بكر محمد بن طُفيل الفيلسوف، وكان بارعًا في علم الأوائل، أديبًا، شاعرًا، بليغًا، فكان أبو يعقوب شديد الحبّ له. بلغني أنّه كان يقيم عنده في القصر أيّامًا ليلًا ونهارًا، وكان هو الذي نبّه على قدر الحكيم أبي الوليد محمد بن أحمد بن محمد بن رشد المتفلسف، وسمعت أبا بكر بن يحيى القرطبي الفقيه يقول: سمعت الحكيم أبا الوليد يقول: لمّا دخلت على أمير المؤمنين أبي يعقوب وجدته هو وأبو بكر بن طُفيل فقط، فأخذ أبو بكر يُثني عليّ ويُطريني، فكان أوّل ما فاتحني به أمير المؤمنين أن قال لي: ما رأيهم، يعني الفلاسفة، في السماء، أقديمة أم حادثة؟ فأدركني الخوف فتعلّلت وأنكرت اشتغالي بعلم الفلسفة، ففهم مني الرَّوع، فالتفت إلى ابن طفيل وجعل يتكلّم على المسألة، ويذكر قول أرسطو فيها، ويورد احتجاج أهل الإسلام على الفلاسفة، فرأيت منه غزارة حفظ لم أظنّها في أحد من المشتغلين. ولم يزل يبسطني حتّى تكلّمت، فعرف ما عندي من ذلك. فلمّا قمت أمر لي بخلعةٍ ودابّةٍ ومال.

وقد وَزَرَ لأبي يعقوب أخوه عمر أيّامًا، ثم رفع قدره عنها، وولّى أبا العلاء إدريس بن جامع إلى أن قبض عليه سنة سبع وسبعين، وأخذ أمواله، واستوزر وليّ عهده ولده يعقوب، وكتب له أبو محمد عيّاش بن عبد الملك بن عيّاش كاتب أبيه، وأبو القاسم القالميّ (٢)، وأبو الفضل جعفر بن أحمد بن محشوة البِجّائيّ. وكان على ديوان جيشه أبو عبد الرحمن الطّوسيّ. وكان حاجبه مولاه كافور الخَصيّ. وكان له من الولد ستة عشر (٣) ذَكَرًا منهم صديقي يحيى، قال: ومنه تلقّيت أكثر أخبارهم. ولم أر في الملوك ولا في السّوقة مثله.


(١) المعجب ٣٠٩ - ٣٣٥.
(٢) منسوب إلى قالم؛ ضيعة من أعمال مدينة بجاية، كما ذكر المراكشي في المعجب ٢٦٩.
(٣) في المعجب: "ثمانية عشر".