ما زال المسلمون على قانون السلف من أن القرآن كلام الله تعالى ووحيه وتنزيله غير مخلوق، حتى نبغت المعتزلة والجهمية، فقالوا بخلق القرآن، متسترين بذلك في دولة الرشيد. فروى أحمد بن إبراهيم الدورقي، عن محمد بن نوح، أن هارون الرشيد قال: بلغني أن بشر بن غياث يقول: القرآن مخلوق. لله علي إن أظفرني به لأقتلنه. قال الدورقي: وكان بشر متواريا أيام الرشيد، فلما مات ظهر بشر ودعى إلى الضلالة.
قلت: ثم إن المأمون نظر في الكلام، وباحث المعتزلة، وبقي يقدم رجلا ويؤخر أخرى في دعاء الناس إلى القول بخلق القرآن، إلى أن قوي عزمه على ذلك في السنة التي مات فيها، كما سقناه.
قال صالح بن أحمد بن حنبل: حمل أبي، ومحمد بن نوح مقيدين، فصرنا معهما إلى الأنبار، فسأل أبو بكر الأحوال أبي فقال: يا أبا عبد الله، إن عرضت على السيف تجيب؟. قال: لا. ثم سيرا، فسمعت أبي يقول: صرنا إلى الرحبة ورحلنا منها، وذلك في جوف الليل، فعرض لنا رجل فقال: أيكم أحمد بن حنبل؟ فقيل له: هذا. فقال للجمال: على رسلك. ثم قال: يا هذا، ما عليك أن تقتل هاهنا وتدخل الجنة. ثم قال: أستودعك الله، ومضى. قال أبي: فسألت عنه، فقيل: هذا رجل من العرب من ربيعة يعمل الشعر في البادية، يقال له: جابر بن عامر، يذكر بخير.
وروى أحمد بن أبي الحواري: حدثنا إبراهيم بن عبد الله قال: قال أحمد بن حنبل: ما سمعت كلمة منذ وقعت في هذا الأمر أقوى من كلمة أعرابي كلمني بها في رحبة طوق، قال: يا أحمد، إن يقتلك الحق مت شهيدا، وإن عشت عشت حميدا. فقوى قلبي.
قال صالح بن أحمد: قال أبي: صرنا إلى أذنة، ورحلنا منها في جوف الليل، وفتح لنا بابها، فإذا رجل قد دخل فقال: البشرى، قد مات الرجل، يعني المأمون. قال أبي: وكنت أدعو الله أن لا أراه.