ومن عجيب أن التوراة لم تشر -حتى مجرد إشارة- إلى أن الملك البابلي قد أنكر على دانيال اليهودي جرأته وتطاوله عليه، ولا جبهه إياه بهذا النذير الذي يتهدده هو وبلاده، ولم يفرط عليه في القول، بل إنه أعلن رضاه عنه وأعلى منزلته ورفع مرتبته، فجعله ثالث ثلاثة في مملكته.
بيانها: وبدهي أن هناك الكثير من العقبات التي تقف حجر عثرة في قبولنا لرواية التوراة هذه، منها:
(أ) أن التاريخ العالمي لم يعرف ملكًا يدعى (داريوس المادي) قتل (بيلشاصر) ملك الكلدانيين، بل إن بيلشاصر) نفسه لم يكن ملكًا على الكلدانيين.
(ب) أن (بيلشاصر) هذا، لم يكن ابنًا للملك البابلي (نبوخذ نصر)(٦٠٥ - ٥٦٢ ق. م)، ولا خليفة له، ذلك لأن ولده وخليفته إنما كان (أويل مردوخ)(٥٦٢ - ٥٦٠ ق. م) ثم خلفه زوج أخته واحد قواد أبيه (نريجليسار)(نرجال- سار- أوصر)(٥٥٩ - ٥٥٦ ق. م) ثم خلفه ولده (لباشي مردوخ)(٥٥٦ ق. م) وكان طفلًا، ذبح بعد تسعة أشهر، ليحل محله (نبونيد)(٥٥٥ - ٥٣٩ ق. م) آخر ملوك بابل.
وهكذا يبدو واضحًا أن (بيلشاصر) ليس ابنًا للملك البابلي (نبوخذ نصر) ولا خليفة له، وربما كان -فيما يرى بعض الباحثين- الابن الأكبر (نبونيد) وولي عهده، وربما كان نائبًا عنه في الفترة التي قضاها في تيماء -وتقع على مبعدة ١٠٤ كيلًا إلى الشمال من مدينة (العلا) الحالية ١٦٠ كيلًا إلى الشرق من خليج العقبة- بعد أن قام بحملة في العام الثالث من حكمه، استولى فيها على عدة مدن في شمال غريب الجزيرة العربية ثم أقام قصرًا في تيماء نفى فيه حينًا من الدهر، أصبحت تيماء فيه وكأنها قد غدت خليفة لبابل.
(ج) أن الذي استولى على بابل إنما كان العاهل الفارسي (كيروش الثاني)(٥٥٨ - ٥٣٠٥. م)، إذ استولت جيوشه على المدينة العريقة في ١٢ أو ١٣ أكتوبر من عام ٥٣٩ ق. م وفي ٢٦ من نفس الشهر بدأ الكتاب يؤرخون باسم العاهل الجديد (كيروش ملك العالم) وفي ٢٩ أكتوبر ٥٣٩ ق. م، دخل كيروش نفسه بابل، وفرشت الورود في طريقه،