قال الزرقاني: إن نسخ الله تعالى ما شاء من أحكامه مبني على حكمة كانت معلومة له أولًا، ظاهرة لم تخف عليه ولن تخفى عليه أبدًا؛ غاية الأمر أن مصالح العباد تتجدد بتجدد الأزمان وتختلف باختلاف الأشخاص والأحوال، وأسراره وحكمه سبحانه لا تتناهى، ولا يحيط بها سواه. فإذا نسخ حكما بحكم، لم يخل هذا الحكم الثاني من حكمة جديدة غير حكمة الحكم الأول هي مصلحة جديدة للعباد في الحكم الجديد، أو هي غير تلك؛ وسبحان من أحاط بكل شي علما. وإذن فلا يستلزم نسخ الله لأحكامه بداءً ولا عبثًا (١).
الوجه الثالث: الالتباس وقع لتشبيههم علم المخلوق بعلم الله، وبينهما بون عظيم. وبيان هذا أنه ما دام قد أمكن النسخ على احتمال لا يأباه العقل فمن الخطأ الحكم باستحالته عقلًا، وما في النسخ من جديد - على هذا - إنما يعتبر جديدًا بالنسبة لنا نحن، أما بالنسبة لله فقد سبق به علمه، ثم جاء النسخ تحقيقًا لهذا العلم، لا اعتراضًا عليه. ولو أنه تعالى حين شرع الحكم الأول حدد مدة العمل، وشرع معه الحكم الذي سينسخه حين يجيء أوان النسخ لاستقبل الناس هذا دون أن يثير في نفوسهم تساؤلًا أو استنكارًا، فلماذا التساؤل والاستنكار حين يخفى عنا الناسخ حتى يجيء أوانه؟ وهل النسخ إلا هذا؟ وهل ننكره لشيء إلا لأنه يشرع لنا حكمًا جديدًا علينا؟ .
على أننا نلحظ هذا الجديد كل يوم في جميع شئون الحياة، ولا نجد فيه دليلا ولا شبه دليل على أن الله تعالى يمكن أن يوصف بالبداء أو بالعبث. فالصحيح الجسم قد ينتابه المرض، ومن يعاني مرضًا قد يسبغ الله عليه ثوب العافية، ولم يقل أحد إن الله - عز وجل - قد تغير علمه، أو إنه قد بدا له، فابتلى الصحيح بالمرض، وأنعم على المريض بالصحة.
والغنى والفقر يتعاوران الناس، فالغني يصاب بالفقر، والفقير يبتلى بالغنى، ولم يفهم أحد أن الله تعالى قد تبدل، أو أنه - عز وجل - قد بدا له، فبدل الغني بغناه فقرًا، وبدل الفقير غنى بفقره.