السرعة الخارقة لا يمشي مكبًّا على وجهه، مضطربًا أو متعثرًا، بل هو محتفظ دائمًا بمكانته العليا من البلاغة {يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}[الملك: ٢٢].
ولقد خلع هذا التصرف والافتنان، لباسًا فضفاضًا من الجدّة والروعة على القرآن، ومسحه بطابع من الحلاوة والطلاوة، حتى لا يملّ قارئهُ، ولا يسأم سامعه، مهما كثرت القراءة والسماع. بل ينتقل كل منهما من لون إلى لون، كما ينتقل الطائر في روضة غنّاء من فنن إلى فنن، ومن زهر إلى زهر.
واعلم أن تصريف القول في القرآن على هذا النحو كان فنًّا من فنون إعجازه الأسلوبي كما ترى، وكان في الوقت نفسه منّة يمنّها الله على الناس؛ ليستفيدُوا عن طريقها كثرة النظر في القرآن والإقبال عليه قراءةً وسماعًا، وتدبرًا وعملًا، وأنه لا عذر معها لمن أهمل هذه النعمة وسفه نفسه. اقرأ إن شئت قوله سبحانه {وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا (٨٩)} [الإسراء: ٨٩]. (١)
[الوجه السادس: الإعجاز في وفاء اللفظ بالمعنى في القرآن.]
وبيانه كما يلي:
[١ - براعة اللفظ في المعنى البارع]
إنَّ المعاني التي تضمنها القرآن في أصل وضع الشريعة، والأحكام، والاحتجاجات في أصل الدين، والرد على الملحدين على تلك الألفاظ البديعة، وموافقة بعضها بعضًا في اللطف والبراعة، مما يتعذر على البشر ويمتنع.
وذلك أنه قد عُلم أن تخيّر الألفاظ للمعاني المتداولة المألوفة، والأسباب الدائرة بين الناس أسهلُ وأقربُ من تخيّر الألفاظ لمعانٍ مبتكرةٍ، وأسباب مؤسسةٍ مستحدثةٍ؛ فإذا برعَ اللفظ في المعنى البارع، كان ألطف وأعجب من أن يوجد اللفظ البارع في المعنى المتداول المتكرر، والأمر المتقرر المتصور.