للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فيتوصلوا باختيار الأفضل من الأحسن من وجوهها إلى أن يأتوا بكلام مثله، وإنما يقوم الكلام بهذه الأشياء الثلاثة: لفظ حامل، ومعنى به قائم، ورباط لهما ناظم.

وإذا تأملت القرآن وجدت هذه الأمور منه في غاية الشرف والفضيلة، حتى لا ترى شيئًا من الألفاظ أفصح ولا أجزل ولا أعذب من ألفاظه، ولا ترى نظمًا أحسن تأليفًا، وأشد تلاؤمًا وتشاكلًا من نظمه. وأما معانيه: فكل ذي لب يشهد له بالتقدم في أبوابه، والترقي إلى أعلى درجاته.

وقد توجد هذه الفضائل الثلاث على التفرق في أنواع الكلام؛ فأمّا أن توجد مجموعة في نوع واحد منه، فلم توجد إلا في كلام العليم القدير. فخرج من هذا أن القرآن إنما صار معجزًا؛ لأنه جاء بأفصح الألفاظ في أحسن نظوم (١) التأليف، مضمنًا أصح المعاني من توحيد لله تعالى، وتنزيهه له في صفاته، ودعاء إلى طاعته، وبيان لطريق عبادته من تحليل وتحريم، وحظر وإباحة، ومن وعظ وتقويم، وأمر بمعروف ونهي عن منكر، وإرشاد إلى محاسن الأخلاق وزجر عن مساويها، واضعًا كل شيء منها موضعه الذي لا يرى شيء أولى منه، ولا يتوهم في صورة العقل أمر أليق به منه، مودعًا أخبار القرون الماضية، وما نزل من مُثُلات الله بمن مضى وعاند منهم، منبئًا عن الكوائن المستقبلة في الأعصار الآتية من الزمان، جامعًا في ذلك بين الحجة والمحتج له، والدليل والمدلول عليه؛ ليكون ذلك آكد للزوم ما دعا عليه وإنباء عن وجوب ما أمر به ونهي عنه.

ومعلوم أن الإتيان بمثل هذه الأمور، والجمع بين أشتاتها؛ حتى تنتظم وتتسق أمرٌ تعجز عنه قوى البشر، ولا تبلغه قدرتهم؛ فانقطع الخلق دونه، وعجزوا عن معارضته بمثله أو مناقضته في شكله. (٢)

إعجاز القرآن في علم البديع


(١) جمع (نُظُم).
(٢) الإتقان في علوم القرآن ٢/ ٣١٧ - ٣٢٠.

<<  <  ج: ص:  >  >>