للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

سنة أهل الفضل والكمال من ارتياح نفوسهم للعلم في المصالح، ولذلك لم يسأل مالًا لنفسه، ولا عَرَضًا من متاع الدنيا، ولكنه سأل أن يوليه خزائن المملكة، ليحفظ الأموال، ويعدل في توزيعها، ويرفق بالأمة في جمعها وإبلاغها لمحالّها، وعلّل طلبه ذلك بقوله: {إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ} المفيد تعليل ما قبلها لوقوع (إنّ) في صدر الجملة، فإنه علم أنه اتصف بصفتين يعسر حصول إحداهما في الناس بل كلتيهما، وهما: الحفظ لما يليه، والعلم بتدبير ما يتولاه، ليعلم الملك أن مكانته لديه وائتمانه إياه قد صادفا محلهما وأهلهما، وأنه حقيق بهما لأنه متصف بما يفي بواجبهما، وذلك صفة الحفظ المحقّق للائتمان، وصفة العلم المحققّ للمكانة. وفي هذا تعريف بفضله ليهتدي الناس إلى إتباعه وهذا من قبيل الحِسبَة (١).

[الوجه الثاني: الملك زكى يوسف - عليه السلام - قبل أن يزكي يوسف - عليه السلام - نفسه.]

قال ابن كثير: يقول تعالى إخبارًا عن الملك حين تحقق براءة يوسف - عليه السلام - ونزاهة عرْضه مما نسب إليه، قال: {ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي} أي: أجعله من خاصّتي وأهل مشورتي، {فَلَمَّا كَلَّمَهُ} أي: خاطبه الملك وعرفه، ورأى فضله وبراعته، وعلم ما هو عليه من خَلْق وخُلُق وكمال قال له الملك: {إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ} أي: إنك عندنا قد بقيت ذا مكانة وأمانة (٢).

قال الرازي: إن الملك عظم اعتقاده في يوسف لوجوه:

أحدها: أنه عظم اعتقاده في علمه، وذلك لأنه لما عجز القوم عن الجواب وقدر هو على الجواب الموافق الذي يشهد العقل بصحته مال الطبع إليه.

وثانيها: أنه عظم اعتقاده في صبره وثباته؛ وذلك لأنه بعد أن بقي في السجن بضع سنين لما أذن له في الخروج ما أسرع إلى الخروج، بل صبر وتوقف وطلب أولًا ما يدل على براءة حاله عن جميع التهم.


(١) التحرير والتنوير (١٣/ ٨، ٩).
(٢) تفسير ابن كثير (٨/ ٥١)، تفسير القرطبي (٩/ ٢١٦).

<<  <  ج: ص:  >  >>