أن عندهم التوراة التي هي شريعتهم فيها حكم الله فيما يحكمونك فيه، ثم يتولون عن حكمك بعد أن رضوا به وآثروه على شريعتهم لموافقته لها، أي: إذا فكرت في هذا رأيته من عجيب أمرهم، وسببه أنهم ليسوا بالمؤمنين إيمانًا صحيحًا بالتوراة ولا بك، وإنما هم ممن جاء فيهم {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ}، فإن المؤمن الصادق بشرع لا يرغب عنه إلى غيره إلا إذا آمن بأن ما رغب إليه شرع من الله أيضًا أيد به الأول، أو نسخه لحكمة اقتضت ذلك باختلاف أحوال عباده، وهؤلاء تركوا حكم التوراة التي يدّعون الإيمان بها واتباعها؛ لأنه لم يوافق هواهم، وجاؤوك يطلبون حكمك رجاء أن يوافق هواهم ثم يتولون ويعرضون عنه إذا لم يوافق هواهم، فما هم بالمؤمنين بالتوراة ولا بك ولا بمن أنزل على موسى التوراة وأنزل عليك القرآن. (١)
الشبهة الثانية: قالوا: بأن القرآن أثنى على أهل الكتاب.
قوله:{لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ}(المائدة: ٨٢)، فذكر القسيسين والرهبان لئلا يقال: إن هذا قيل عن غيرنا، ودل بهذا على أفعالنا وحسن نياتنا ونفى عنا اسم الشرك بقوله: اليهود والذين أشركوا أشد الناس عداوة للذين آمنوا والذين قالوا إنا نصارى أقربهم مودة.
والجواب عليه من هذه الوجوه:
[الوجه الأول: ما هو وجه (نوعية) هذا المدح أو الثناء؟]
قال الطبري: والصواب في ذلك من القول عندنا أن يقال: إن الله تعالى ذكره أخبر عن النفر الذين أثنى عليهم من النصارى بقرب مودتهم لأهل الإيمان بالله ورسوله، أن ذلك إنما كان منهم لأن منهم أهل اجتهاد في العبادة، وترهب في الديارات والصوامع، وأن