للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وهي أحق به: بحيث لا يجد المعنى في لفظه إلا مرآته الناصعة وصورته الكاملة ولا يجد اللفظ في معناه إلا وطنه الأمين، وقراره المكين (١)، لا يومًا أو بعض يوم؛ بل على أن تذهب العصور وتجيء العصور، فلا المكان يريد بساكنه بدلًا، ولا الساكن يبغي عن منزله حولًا. . . . وعلى الجملة يجيئك من هذا الأسلوب بما هو المثل الأعلى في صناعة البيان. . . . فإن أحببت أن تعرف للقرآن الكريم سبقه وأنت بعد لم ترزق قوة الفصل بين درجات الكلام، فسبيلك أن تأخذ الحكم مسلمًا عن أهله، وتقنع فيه بشهادة العارفين به، فها هو الوليد بن المغيرة لما سمع القرآن رقَّ له، فقال رَادًّا على أبي جهل: وماذا أقول؟ ! والله إن لقوله لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإنه لمنير أعلاه، مشرق أسفله، وإنه ليعلو ولا يعلى عليه، وإنه ليحطم ما تحته (٢).

هذا وإن بيان وبلاغة آيات القرآن الكريم تأبى وتتنافى ودعوى الأخذ من هذه الأشعار المتكلفة الضعيفة.

كما أنا لو سلمنا جدلًا بأن القرآن اقتبس في عشر آيات منه، من عشرة أبيات، فمن أين أتى القرآن بأكثر من ستة آلاف آية أخرى؟ !

[الوجه التاسع: منافاة أسلوب القرآن لأسلوب الشعر عامة.]

ولو تنزلنا مرة أخرى مع القوم حسب عقولهم، وافترضنا صحة نسبة الأبيات إلى امرئ القيس؛ فإننا جميعًا سوف نصطدم بالاختلاف البائن بين أسلوب القرآن الكريم كلام رب العالمين وبين هذه الأشعار كلام المخلوقين.

وقد بوَّب الإمام البيهقي قبل رواية حديث الوليد الآنف الذكر فقال: باب اعتراف مشركي قريش بما في كتاب الله تعالى من الإعجاز، وأنه لا يشبه شيئًا من لغاتهم مع كونهم من أهل اللغة وأرباب اللسان (٣).


(١) سبق قول ابن عطية في المحرر الوجيز ١/ ٤٩: وكتاب الله لو نزعت منه لفظة، ثم أدير لسان العرب في أن يوجد أحسن منها لم يوجد، ونحن تبين لنا البراعة في أكثره ويخفى علينا وجهها في مواضع؛ لقصورنا عن مرتبة العرب يومئذ في سلامة الذوق وجودة القريحة وميز الكلام.
(٢) النبأ العظيم صـ ١١٣: ١١٦ (ملخصًا) وقد مرَّ قول الوليد محققًا في الوجه الأول.
(٣) دلائل النبوة للبيهقي ٢/ ١٩٨.

<<  <  ج: ص:  >  >>