تقدمه تشبيهًا لتباعد ما بين المراتب الثلاث في الفضل بتباعد ما بين الحوادث في الوقت، {ثُمَّ قَبَضْنَاهُ} أي: الظل، والقبض: جمع المنبسط، {إِلَيْنَا} أي: إلى الجهة التي نريدها، لا يقدر أحد غيرنا أن يحوله إلى جهة غيرها.
قال الرازي (في اللوامع): وهذه الإضافة لأن غاية قصر الظل عند غاية تعالى الشمس، والعلو موضع الملائكة وجهة السماء التي فيها أرزاق العباد، ومنها نزول الغيث والغياث، وإليها ترتفع أيدي الراغبين، وتشخص أبصار الخائفين (اهـ).
{قَبْضًا يَسِيرًا} أي: هو مع كونه في القلة بحيث يعسر إدراكه حق الإدراك - سهل علينا، ولم نزل ننقصه شيئًا فشيئًا حتى اضمحل كله، أو إلا يسيرًا، ثم مددناه أيضًا بسير الشمس وحجبها ببساط الأرض قليلًا قليلًا، أولًا فأولًا بالجبال والأبنية والأشجار، ثم بالروابي والآكام والظراب وما دون ذلك، حتى تكامل كما كان، وفي تقديره هكذا من المنافع ما لا يحصى، ولو قبض لتعطلت أكثر منافع الناس بالظل والشمس جميعًا، فالحاصل أنه يجعل بواطنهم مظلمة بحجبها عن أنوار المعارف فيصيرون كالماشي في الظلام، ويكون نفوذهم في الأمور الدنيوية كالماشي بالليل في طرق قد عرفها ودربها بالتكرار، وحديث علي -رضي اللَّه عنه- في الروح الذي مضى عند "والطبيات للطيبين" في النور شاهد حسي لهذا الأمر المعنوي. . . (١).
الوجه الثالث عشر: القرآن يوضح لنا في هذه الآية أنه كما أن الشمس تكون دليلًا على الظل فإن اللَّه دليل على كل دليل، قال العلماء: اللَّه دليل على كل دليل.
قال الرازي: وهو أنه سبحانه وتعالى لا خلق الأرض والسماء وخلق الكواكب والشمس والقمر وقع الظل على الأرض، ثم إنه سبحانه خلق الشمس دليلًا عليه، وذلك لأن بحسب حركات الأضواء تتحرك الأظلال فإنهما متعاقبان متلازمان لا واسطة بينهما فبمقدار ما يزداد أحدهما ينقص الآخر، وكما أن المهتدي يهتدي بالهادي والدليل ويلازمه، فكذا الأظلال كأنها مهتدية وملازمة للأضواء فلهذا جعل الشمس دليلًا عليها.