ونظير ذلك أن تكون أستاذًا معلمًا، وتريد أن تقف على مدى انتباه تلاميذك، ومبلغ ثقتهم فيك، وفي علمك، بعد أن زودتهم منك بدراسات واسعة، وتعاليم واضحة، فإنك تختبرهم في بعض الأوقات بكلمات فيها شيء من الألغاز والخفاء، ليظهر الذكي من الغبي؛ والواثق بك الوامق لك من المتشكك فيك، المتردد في علمك وفضلك، فأما الواثق فيك فيعرف أن تلك الألغاز والمعميات صدرت عن علم منك بها وإن لم يعلم هو تفسيرها، ويعرف أن لك حكمة في إيرادها على هذه الصورة من الخفاء وهي الاختبار والابتلاء، وأما المتشكك فيك فيقول: ماذا أراد بهذا؟ وكيف ساغ له أن يورده؟ وما مبلغ العلم الذي فيه؟ ثم ينسى تلك المعارف الواسعة الواضحة التي زودته بها من قبل ذلك، وكلها من أعلام العلم وآيات الفضل.
ولا يفوتنَّك في هذا المقام أن تعرف أن ابتلاء الله لعباده ليس المراد منه أن يعلم سبحانه ما كان جاهلًا منهم - حاشاه حاشاه - فقد وسع كل شيء علمًا؛ إنما المقصود منه إظهار مكنونات الخلق، وإقامة الحجج عليهم من أنفسهم فلا يتهمون الله في عدله وجزائه إذا جعل من الناس أهلًا لثوابه وآخرين لعقابه. (١)
فقولهم آمنا به كل من عند ربنا دليل على الاستسلام والخضوع التام لما جاء من عند الله تعالى حتى لو لم تبلغه العقول، وهذه أسمى الغايات وأحسن الحكم.
وذلك أن الأفعال التي كلفنا بها قسمان: منها ما نعرف وجه الحكمة فيها على الجملة بعقولنا: كالصلاة والزكاة والصوم؛ فإن الصلاة تواضع محض وتضرع للخالق، والزكاة سعي في دفع حاجة الفقير، والصوم سعي في كسر الشهوة. ومنها ما لا نعرف وجه الحكمة فيه: كأفعال الحج فإننا لا نعرف بعقولنا وجه الحكمة في رمي الجمرات، والسعي