للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ما يحكيه عن العرب، فإنه لا يلتزم حكاية ألفاظهم، بل يحكي حاصل كلامهم، وللعرب في حكاية الأقوال اتساع مداره على الإحاطة بالمعنى دون التزام الألفاظ، فالإعجاز الثابت للأقوال المحكية في القرآن هو إعجاز للقرآن لا للأقوال المحكية. (١)

قال الزركشي: ومن الإعجاز ما ينتشر فيه عند تلاوته من إنزال الله إياه في صورة كلام هو مخاطبة من الله لرسوله تارة، ومخاطبة أخرى لخلقه، لا في صورة كلام يستمليه من نفسه من قد قُذف في قلبه وأُوحى إليه ما شاء أن يلقيه إلى عباده على لسانه، فهو يأتي بالمعاني التي ألهمها بألفاظه التي يكسوها إياه كما يشاهد من الكتب المتقدمة. (٢)

ومعنى هذا أن القرآن الكريم إذا قرأته على العامة أو قرئ عليهم، أحسوا جلاله، وذاقوا حلاوته وفهموا منه على قدر استعدادهم ما يرضي عقولهم وعواطفهم. وكذلك الخاصة إذا قرؤوه أو قرئ عليهم أحسوا جلاله وذاقوا حلاوته وفهموا منه أكثر مما يفهم العامة، ورأوا أنهم بين يدي كلام ليس كمثله كلام، لا في إشراق ديباجته، ولا في امتلائه وثروته، ولا كذلك كلام البشر؛ فإنه إن أرضى الخاصة والأذكياء لجنوحه إلى التجوز والإغراب والإشارة، لم يرض العامة؛ لأنهم لا يفهمونه. وإن أرضى العامة لجنوحه إلى التصريح والحقائق العارية المكشوفة لم يرض الخاصة؛ لنزوله إلى مستوى ليس فيه إمتاع لأذواقهم ومشاربهم وعقولهم. (٣)

[الوجه الثاني عشر: الإعجاز في الوحدة الموضوعية (العضوية) للآيات والسور]

الأغلب أنه إذا انتقل الكلام من مضمون إلى مضمون آخر، واشتمل على بيان أشياء مختلفة لا يبقى حسن ربط الكلام ويسقط عن الدرجة العالية للبلاغة. والقرآن يوجد فيه الانتقال من قصة إلى قصة أخرى، والخروج من باب إلى باب، والاشتمال على أمر ونهي، وخبر واستخبار، ووعد وعيد، وإثبات النبوة، وتوحيد الذات، وتفريد الصفات،


(١) التحرير والتنوير (١/ ١٢٠، ١٢١).
(٢) البرهان في علوم القرآن (٢/ ١٠٧).
(٣) مناهل العرفان في علوم القرآن (٢/ ٣١٣).

<<  <  ج: ص:  >  >>