للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

السرُ في اختصاص السورةِ الكريمة بوجوب القراءة في كل ركعةٍ من الصلاة التي هي مناجاةُ العبدِ لمولاه ومِنَّتُه للتبتل إليه بالكلية. (١)

وقال ابن عاشور: قال السكاكي في (المفتاح) بعد أن ذكر أن العرب يستكثرون من الالتفات: (أَفتراهم يحسنون قِرى الأشباح؛ فيخالفون بين لون ولون، وطَعْم وطَعْم، ولا يحسنون قِرى الأرواح؛ فيخالفون بين أسلوب وأسلوب). فهذه فائدة مطردة في الالتفات. ثم إن البلغاء لا يقتصرون عليها غالبًا؛ بل يراعون للالتفات لطائف ومناسبات، ولم يزل أهل النقد والأدب يستخرجون ذلك من مغاصه.

وما هنا التفاتٌ بديع؛ فإن الحامد لما حمد الله تعالى ووصفه بعظيم الصفات بلغت به الفكرة منتهاهَا، فتخيل نفسه في حضرة الربوبية، فخاطب ربه بالإقبال.

وقال: ومما يزيد الالتفات وقعًا في الآية أنه تخلص من الثناء إلى الدعاء، ولا شك أن الدعاء يقتضي الخطاب فكان قوله: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} تخلصًا يجىء بعده: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ} ونظيره في ذلك قول النابغة في رثاء النعمان الغساني:

أبى غفلتي أَني إذا ما ذكرته ... تحرك داء في فُؤَادِيَ داخل

وأن تِلَادِي إنْ نظرتُ وشكَّتِي ... ومُهري وما ضَمَّت إليَّ الأنامل

حِباؤُك والعيسُ العتاقُ كأنها ... هِجان المَهى تُزْجى عليها الرحائل (٢)

[الوجه الثالث: أسلوب أقصر وأبلغ في الحصر والتخصيص.]

قد أسلفنا وما زلنا نكرر أن الكلام عن أساليب اللغة العربية لا ينبغي إلا لمن له بكلام العرب ولغتهم كبير دراية، ومن ذلك قول الله تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} قدم المفعولين لنعبد ونستعين، وهذا التقديم للاختصاص؛ لأنه سبحانه وتعالى وحده له العبادة، لذا لم يقل نعبدك ونستعينك؛ لأنها لا تدل على التخصيص بالعبادة لله تعالى، أما


(١) تفسير أبو السعود (١/ ١٢).
(٢) التحرير والتنوير (١/ ٣٥ - ٣٦).

<<  <  ج: ص:  >  >>