سمع القرآن عرف أنه معجز؛ لأنه يعرف من حال نفسه أنه لا يقدر عليه، وهو يعرف من حال غيره مثل ما يعرف من حال نفسه، فيعلم أن عجز غيره كعجزه هو. وإن كان يحتاج بعد هذا إلى استدلال آخر، على أنه علَم على نبوته، ودلالة على رسالته؛ بأن يقال له: إن هذه آية لنبي، وإنها ظهرت عليه، وادّعاها معجزةً له وبرهانًا على صدقه.
[٥ - متى علم البليغ المتناهي في صنوف البلاغات عجزه عن القرآن علم عجز غيره عنه.]
فإن قيل: فإن من الفصحاء من يعلم عجز نفسه عن قول الشعر، ولا يعلم مع ذلك عجز غيره عنه، فكذلك البليغ، وإن علم عجز نفسه عن مثل القرآن، فهو يخفي عليه عجز غيره.
قيل: هو مع مستقر العادة، وإن عجز عن قول الشعر، وعلم أنه مفحم؛ فإنه يعلم أن الناس لا ينفكُّون من وجود الشعراء فيهم، ومتى علم البليغ المتناهي في صنوف البلاغات عجزه عن القرآن، علم عجز غيره عنه، وأنه كهو؛ لأنه يعلم أن حاله وحال غيره في هذا الباب سواءٌ.
[٦ - نقض العادة يقع موقع المعجزة في القول أو الفعل.]
إذ ليس في العادة مَثَلٌ للقرآن يجوز أن يعلم قدرة أحد من البلغاء عليه؛ فإذا لم يكن لذلك مثل في العادة، وعرف هذا الناظر جميع أساليب الكلام، وأنواع الخطاب، ووجد القرآن مباينًا لها؛ علم خروجه عن العادة، وجرى مجرى ما يعلم أن إخراج اليد البيضاء من الجيب خارج عن العادات، فهو لا يُجوِّزه من نفسه، وكذلك لا يُجوِّز وقوعه من غيره إلا على وجه نقض العادة، بل يرى وقوعه موقع المعجزة. وهذا وإن كان يفارق فلق البحر، وإخراج اليد البيضاء ونحو ذلك من وجه، فهو أنه يستوي الناس في معرفة عجزهم عنه؛ بكونه ناقضًا للعادة من غير تأمل شديد ولا نظر بعيد، ومما يبين ما قلناه من أن البليغ المتناهي في وجوه الفصاحة، يعرف إعجاز القرآن، وتكون معرفته حجة عليه إذا تُحدّي إليه وعجز عن مثله، وإن لم ينتظر وقوع التحدي في غيره، وما الذي يصنع ذلك بالغير فهو: ما رُوي في الحديث أن جبير بن مطعم وَرد على النبيّ - صلى الله عليه وسلم - في حليف له أراد أن يفاديه، فدخل والنبي - صلى الله عليه وسلم -: "يقرأ سورة {وَالطُّورِ (١) وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ (٢)} في صلاة الفجر، قال: فلما انتهى إلى قوله: {إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ (٧) مَا لَهُ مِنْ دَافِعٍ (٨)} [الطور: