قال الزرقاني: إن الله تعالى قد سبق في علمه أن الحكم المنسوخ مؤقت لا مؤبد، ولكنه عَلِم بجانب ذلك أن تأقيته إنما هو بورود الناسخ لا بشيء آخر كالتقييد بغاية في دليل الحكم الأول، وإذن فعلمه بانتهائه بالناسخ لا يمنع النسخ؛ بل يوجبه. وورود الناسخ محقق لما في علمه لا مخالف له شأنه تعالى في الأسباب ومسبباتها، وقد تعلق علمه بها كلها، ولا تنس ما قررناه ثمة من أن النسخ بيان بالنسبة إلى الله، رفع بالنسبة إلينا (١).
الشبهة الخامسة.
يقولون: لو جاز النسخ للزم أحد باطلين تحصيل الحاصل، وما هو في معناه. وبيان ذلك أن الحكم المنسوخ إما أن يكون دليله قد غياه بغاية ينتهي عندها أو يكون قد أبَّدَه نصًا؛ فإن كان قد غياه بغاية فإنه ينتهي بمجرد وجود هذه الغاية، إذ لا سبيل إلى إنهائه بالنسخ وإلا لزم تحصيل الحاصل. وإن كان دليل الحكم الأول قد نص على تأبيده ثم جاء الناسخ على رغم هذا التأبيد لزم المحال من وجوه ثلاثة:
أولها: التناقض؛ لأن التأبيد يقتضي بقاء الحكم ولا ريب أن النسخ ينافيه.
ثانيها: تعذر إفادة التأبيد من الله للناس؛ لأن كل نص يمكن أن يفيده تبطل إفادته باحتمال نسخه، وذلك يفضي إلى القول بعجز الله وعِيِّه عن بيان التأبيد لعباده فيما أبده لهم - تعالى الله - عن ذلك.
ثالثها: استلزام ذلك لجواز نسخ الشريعة الإسلامية مع أنها باقية إلى يوم القيامة عند القائلين بالنسخ.
والجواب على هذه الشبهة:
الوجه الأول: إن حصر الحكم المنسوخ في هذين الوجهين اللذين ذكرهما المانع غير صحيح؛ لأن الحكم المنسوخ يجوز ألا يكون مؤقتًا ولا مؤبدًا؛ بل يجيء مطلقا عن التأقيت وعن التأبيد كليهما، وعليه فلا يستلزم طرو النسخ عليه شيئا من المحالات التي ذكروها،