بين الصفا والمروة، والرمل، والاضطباع، ثم اتفق المحققون على أنه كما يحسن من الله تعالى أن يأمر عباده بالنوع الأول فكذا يحسن الأمر منه بالنوع الثاني؛ لأن الطاعة في النوع الأول لا تدل على كمال الانقياد لاحتمال أن المأمور إنما أتى به لما عرف بعقله من وجه المصلحة فيه، أما الطاعة في النوع الثاني فإنه يدل على كمال الانقياد ونهاية التسليم؛ لأنه لما لم يعرف فيه وجه مصلحة البتة لم يكن إتيانه به إلا لمحض الانقياد والتسليم، فإذا كان الأمر كذلك في الأفعال فلم لا يجوز أيضًا أن يكون الأمر كذلك في الأقوال؟ وهو أن يأمرنا الله تعالى تارة أن نتكلم بما نقف على معناه، وتارة بما لا نقف على معناه، ويكون المقصود من ذلك ظهور الانقياد والتسليم من المأمور للآمر؛ بل فيه فائدة أخرى، وهي أن الإنسان إذا وقف على المعنى وأحاط به سقط وقعه عن القلب، وإذا لم يقف على المقصود مع قطعه بأن المتكلم بذلك أحكم الحاكمين فإنه يبقى قلبه متلفتًا إليه أبدًا، ومتفكرًا فيه أبدًا، ولباب التكليف إشغال السر بذكر الله تعالى والتفكر في كلامه، فلا يبعد أن يعلم الله تعالى أن في بقاء العبد ملتفت الذهن مشتغل الخاطر بذلك أبدًا مصلحة عظيمة له، فيتعبده بذلك تحصيلًا لهذه المصلحة (١).
[الوجه التاسع: توضيح أهل العلم لها من معان وأسرار يدل على أنها ليست من الطلاسم]
فقد بوب أهل العلم في علوم القرآن بابا مخصوصا حول أسرار الفواتح، والتمسوا لها المعاني.
قال ابن القيم: تأمل سر (الم) كيف اشتملت على هذه الحروف الثلاثة، فالألف إذا بدئ بها أولًا كانت همزة وهي أول المخارج من أقصى الصدر، واللام من وسط المخارج وهي أشد الحروف اعتمادا على اللسان، والميم آخر الحروف ومخرجها من الفم، وهذه الثلاثة هي أصول مخارج الحروف أعني الحلق واللسان والشفتين، وترتيب في التنزيل من البداية إلى الوسط إلى النهاية، فهذه الحروف معتمد المخارج الثلاثة التي تتفرع منها ستة عشر مخرجا؛ فيصير منها تسعة وعشرون حرفا عليها دار كلام الأمم الأولين والآخرين