فكل بحث يؤدي إلى أن للكون شرائع ثابتة وأن للعلل والشرائط أو الأسباب أو الموانع أحكامًا في معلولاتها أو ما شرطت فيه أو ما تسبب عنها أو ما استحال وجوده لوجودها كان مضادًا لهذا الأصل في أي زمن. وقد كان كل علم من علوم الأكوان لا بد فيه من هذا البحث فكل علم مضاد لهذا الأصل.
ثم إن صاحب هذا الاعتقاد بهذا الأصل لا يحتاج إلى البحث في الأسباب والمسببات؛ لأن اعتقاده في الشيء أن يكون وإرادته لأن يكون كافيان في حصوله فهو في غني عن العلم والعلم عدو لما يعتقد فما أصعب احتماله إذا جاء يزاحمه في سلطانه (١).
[الأصل الثاني: سلطة الرؤساء]
وبعد هذا الأصل أصل آخر وهو السلطة الدينية التي منحت للرؤساء على المرؤوسين في عقائدهم وما تكنه ضمائرهم. وقد أحكم هذه السلطة ما ورد ١٦ - ١٩ من إنجيل متى: وَأُعْطِيكَ مَفَاتِيحَ مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ، فَكُلُّ مَا تَرْبِطُهُ عَلَى الأَرْضِ يَكُونُ مَرْبُوطًا فِي السَّمَاوَاتِ. وَكُلُّ مَا تَحُلُّهُ عَلَى الأَرْضِ يَكُونُ مَحْلُولًا فِي السَّمَاوَاتِ.
فإذا قال الرئيس الكهنوتي لشخص إنه ليس بمسيحي صار كذلك، وإذا قال إنه مسيحي فاز بها. فليس المعتقد حرًّا في اعتقاده يتصرف في معارفه كما يرشده عقله بل عينا قليه مشدودتان بشفتي رئيسه. فإذا اهتزت نفسه إلى بحث أوقفها القابض على تلك السلطة. وهذا الأصل إن نازع فيه بعض النصارى اليوم فقد جرت عليه النصرانية خمسة عشر قرنًا طوالًا.
[الأصل الثالث: ترك الدنيا]
وبعد هذين الأصلين أصل ثالث وهو التجرد من الدنيا والانقطاع إلى الآخرة. تجد هذا الأصل في الأناجيل وفي أعمال الرسل وكلما قرأت في الكتب الأولى عثرت به.
وتجد الأوامر الصادرة بالانقطاع إلى الملكوت والهروب من عالم الملك صريحة في
(١) الإِسلام والنصرانية مع العلم والمدنية (٢٩ - ٣١).