[الوجه الثالث: بيان منشأ غلط المتزايدين في النسخ.]
قال الزرقاني: ونستطيع أن نرد أسباب هذا الغلط إلى أمور خمسة:
أولها: ظنهم أن ما شرع لسبب ثم زال سببه من المنسوخ، وعلى هذا عدوا الآيات التي وردت في الحث على الصبر وتحمل أذى الكفار أيام ضعف المسلمين وقلتهم منسوخة بآيات القتال مع أنها ليست منسوخة؛ بل هي من الآيات التي دارت أحكامها على أسباب، فالله أمر المسلمين بالصبر وعدم القتال في أيام ضعفهم وقلة عددهم لعلة الضعف والقلة ثم أمرهم بالجهاد في أيام قوتهم وكثرتهم لعلة القوة والكثرة، وأنت خبير بأن الحكم يدور مع علته وجودًا وعدمًا، وأن انتفاء الحكم لانتفاء علته لا يعد نسخا بدليل أن وجوب التحمل عند الضعف والقلة لا يزال قائما إلى اليوم، وأن وجوب الجهاد والدفاع عند القوة والكثرة لا يزال قائما كذلك إلى اليوم.
ثانيها: توهمهم أن إبطال الإسلام لما كان عليه أهل الجاهلية من قبيل ما نسخ الإسلام فيه حكما بحكم كإبطال نكاح نساء الآباء، وكحصر عدد الطلاق في ثلاث، وعدد الزواج في أربع بعد أن لم يكونا محصورين مع أن هذا ليس نسخًا؛ لأن النسخ رفع حكم شرعي، وما ذكروه من هذه الأمثلة ونحوها رفع الإسلام فيه البراءة الأصلية وهي حكم عقلي لا شرعي.
رابعها: اشتباه البيان عليهم بالنسخ في مثل قوله سبحانه: {وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ}، فإن منهم من توهم أنه ناسخ لقوله سبحانه:{إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا} مع أنه ليس ناسخا له، وإنما هو بيان لما ليس بظلم، وببيان ما ليس بظلم يعرف الظلم وبضدها تتميز الأشياء.