للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وقال أيضًا في قوله تعالى: {ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ}: الذي يفتقر إلى أربعة شهداء دون سائر الحقوق هو الزنا رحمة بعبادة وسترا لهم (١).

فصار شهادة الأربعة في غاية الحكمة لأمور:

أولًا: تغليظًا على المدعي وتضييقًا عليه.

فأي إنسان يمكن أن يدعي على آخر أنه زنا لعداوة صارت بينهما أو لأمر ما، حتى ينتقم منه. فكان بأربعة تعجيزًا للمدعي على الإتيان بأربعة فضلًا عن أنه لا يستطيع أن يأتي بواحد معه، فلا إفراط ولا تفريط. وتعجيزًا للألسنة في أن تخوض في أعراض العفيفات بتلك التهمة النكراء وحتى لا يكون المجتمع مهددًا بالانهيار والظن والشكوك، فيصبح الزوج شاك في زوجه وكل رجل شاك في أصله، فيكون فساد المجتمع وشيوع الفاحشة والرذيلة في أوساط الناس، فصار الأربعة شهود تعجيزًا لأهل الأهواء، وأصحاب القلوب المريضة في أن يتعرضوا للعفيفات الحرائر والشرفاء، فكان ذلك حفاظًا على شوكة المجتمع من كل خبيث.

ثانيًا: سترًا على العباد وأن اللَّه يتوب على من تاب.

وهذا باب له حتى يرجع ويتوب، ولعل اللَّه يتوب عليه، فجعل لنا الشرع باب الستر على أهل الحدود لقوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "يا هزال لو سترته بثوبك كان خيرًا لك" (٢).

قال ابن تيمية: وبين -صلى اللَّه عليه وسلم- أن الزنا من الكبائر وأن قذف المحصنات الغافلات من الكبائر وهو من نوع الكبائر إذ لم يأت عليه القاذف بأربعة شهداء وإن كان قد وقع فإنه أظهر ما يحب اللَّه أخفاه كما قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ} (سورة النور: ١٩)، وفي الحديث الصحيح قال النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "كل أمتي معافى إلا المجاهرين وإن من المجاهرة أن يعمل الرجل بالليل عملًا ثم يصبح وقد ستره اللَّه عليه فيقول يا


(١) تفسير القرطبي (النساء: ١٥، النور: ٤).
(٢) مسند أحمد (٢١٩٤٢)، وأبو داود (٤٣٧٧)، والحاكم (٨٠٨٠)، وقال: صحيح الإسناد.

<<  <  ج: ص:  >  >>