[الوجه السادس: الهدى والضلال ومراتبهما، والمقدور منهما للخلق وغير المقدور لهم]
هذا المذهب هو قلب أبواب القدر ومسائله، فإن أفضل ما يقدر الله لعبده وأجل ما يقسمه له الهدى، وأعظم ما يبتليه به ويقدره عليه الضلال، وكل نعمة دون نعمة الهدى، وكل مصيبة دون مصيبة الضلال. وقد اتفقت رسل الله من أولهم إلى آخرهم، وكتبه المنزلة عليهم على أنه سبحانه يضل من يشاء ويهدي من يشاء، وأنه من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأن الهدى والإضلال بيده لا بيد العبد، وأن العبد هو الضال أو المهتدي، فالهداية والإضلال فعله سبحانه وقدره، والاهتداء والضلال فعل العبد وكسبه، ولا بد قبل الخوض في تقرير ذلك من ذكر مراتب الهدى والضلال في القرآن، فأما مراتب الهدى فأربع:
إحداها: الهدى العام، وهو هداية كل نفس إلى مصالح معاشها وما يقيمها، وهذا أعم مراتبه.
المرتبة الثانية: الهدى بمعنى: البيان والدلالة والتعليم والدعوة إلى مصالح العبد في معاده، وهذا خاص بالمكلفين وهذه المرتبة أخص من المرتبة الأولى وأعم من الثالثة.
المرتبة الثالثة: الهداية المستلزمة للاهتداء، وهي هداية التوفيق ومشيئة الله لعبده الهداية وخلقه دواعي الهدى، وإرادته يوم المعاد إلى طريق الجنة والنار.
المرتبة الرابعة: الهداية إلى طريق الجنة والنار يوم القيامة.
[المرتبة الأولى: الهداية العامة]
قال سبحانه وتعالى: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (١) الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى (٢) وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى (٣)} [الأعلى: ١ - ٣]، فذكر سبحانه أربعة أمور عامة: الخلق، والتسوية، والتقدير، والهداية، وجعل التسوية من تمام الخلق، والهداية من تمام التقدير؛ قال عطاء: خلق فسوى: أحسن ما خلقه وشاهده قوله تعالى: {الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ}[السجدة: ٧]، فإحسان خلقه يتضمن تسويته وتناسب خلقه وأجزائه بحيث لم يحصل بينها تفاوت يُخلُّ بالتناسب والاعتدال، وهذه الهداية العامة هي قرينة الخلق في الدلالة على الرب تبارك وتعالى وأسمائه وصفاته وتوحيده، قال تعالى إخبارًا عن فرعون أنه: {قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَامُوسَى (٤٩)