للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

جاهلية وضلالة، وأهل الكتابين كانوا في حيرة من أمر دينهم لطول مكثهم، وانقطاع تواترهم، ووقوع الاختلاف في كتبهم، فبعث الله تعالى محمدًا - صلى الله عليه وسلم - حين لم يكن لطالب الحق سبيل إلى الفوز والثواب، فدعاهم إلى الحق، وبين لهم سبيل الثواب، وشرع لهم الأحكام، وميز الحلال من الحرام، ثم إنما ينتفع بهذه الرحمة؛ من كانت همته طلب الحق؛ فلا يركن إلى التقليد ولا إلى العناد والاستكبار، وكان التوفيق قرينًا له، قال الله تعالى: {قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ} إلى قوله: {وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى} [فصلت: ٤٤] وأما في الدنيا؛ فلأنهم تخلصوا بسببه من كثير من الذل والقتال والحروب، ونصروا ببركة دينه. (١)

ولأنه جاء بما يسعدهم إن اتبعوه. ومن خالف ولم يتبع. فإنما أتى من عند نفسه حيث ضيع نصيبه منها. ومثاله: أن يفجر الله عينًا غديقة، فيسقي ناس زروعهم ومواشيهم بمائها فيفلحوا، ويبقى ناس مفرطون عن السقي فيضيعوا، فالعين المفجرة في نفسها، نعمة من الله ورحمة للفريقين، ولكن الكسلان محنة على نفسه؛ حيث حرمها ما ينفعها. وقيل: كونه رحمة للفجار، من حيث أنّ عقوبتهم أخرت بسببه وأمنوا به عذاب الاستئصال. (٢)

ثانيًا: وقد يقول المعترض: كيف كان رحمة وقد جاء بالسيف واستباحة الأموال؟

قلنا: الجواب من وجوه:

أحدها: إنما جاء بالسيف لمن استكبر وعاند ولم يتفكر ولم يتدبر، ومن أوصاف الله الرحمن الرحيم، ثم هو منتقم من العصاة. وقال: {وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا} [ق: ٩] ثم قد يكون سببًا للفساد (٣).

وأيضًا الذين عجل قتلهم وموتهم خير لهم من حياتهم؛ لأن حياتهم زيادة لهم في تغليظ العذاب عليهم في الدار الآخرة، وهم قد كتب عليهم الشقاء، فتعجيل موتهم خير لهم من طول أعمارهم في الكفر، وأما المعاهدون له فعاشوا في الدنيا تحت ظله وعهده وذمته، وهم


(١) تفسير الرازي (٢٢/ ٢٣٠).
(٢) تفسير الكشاف (٣/ ١٣٩).
(٣) الرازي في تفسيره (٢٢/ ٢٣٠).

<<  <  ج: ص:  >  >>