قوله تعالى:{إِذْ قَالَ اللَّهُ يَاعِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ} فهذا دليل على أنه لم يعنِ بذلك الموت؛ إذ لو أراد بذلك الموت لكان عيسى في ذلك كسائر المؤمنين، فإن الله يقبض أرواحهم ويعرج بها إلى السماء، فعلم أن ليس في ذلك خاصية، وكذلك قوله:{وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا}، ولو كان قد فارقت روحه جسده؛ لكان بدنه في الأرض كبدن سائر الأنبياء أو غيره من الأنبياء، وقد قال تعالى في الآية الأخرى: {وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا (١٥٧) بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (١٥٨) وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا} [النساء: ١٥٧ - ١٥٩]، وقوله هنا:{بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ} يبين أنه رفع بدنه وروحه كما ثبت في الصحيح أنه ينزل ببدنه وروحه؛ إذ لو أريد موته لقال: وما قتلوه وما صلبوه بل مات.
[الوجه الثالث: بطلان قضية الصلب.]
إن كان قد تُوفي فالوفاة لا تستلزم أن تكون بالصلب والقتل، وبهذه الوجوه يسقط زعم النصارى أن هذه الآية {إِنِّي مُتَوَفِّيكَ} وغيرها حجة علينا لإفادتها وفاته - عليه السلام - أي: بالصلب ثم رفعه إلى السماء؛ أعني: قيامه حيًا بعد وفاته على زعمهم من أنه مات بجسده، وأقام على الصليب إلى وقت المغرب من يوم الجمعة، ثم أنزلى ودفن في أول ساعة من ليلة السبت، وأقام في القبر إلى صبيحة الأحد ثم انبعث حيًا وتراءى للنسوة اللاتي جئن إلى قبره زائرات، وقد استندوا في هذا الزعم إلى شهادة أناجيلهم الأربع، وشهادة تلاميذه الشفاهية في العالم ثم أتباعهم، وكذا شهادة اليهود بوقوع الصلب على المسيح ذاتيًا، ووجه سقوط زعمهم الفاسد المذكور ما بيناه في معنى الآية مما لا يبقى معه أدنى ارتياب (١).
* * *
(١) محاسن التأويل (٤/ ١١٠). وانظر: شبهة "الصلب والفداء" في هذه الموسوعة.