للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[الغربة الثانية]

ثم ما زال -صلى الله عليه وسلم- يدعو لها فيؤوب إليه الواحد بعد الواحد على حكم الاختفاء خوفًا من عادية الكفار زمان ظهورهم على دعوة الإسلام، فلما اطلعوا على المخالفة أنفوا وقاموا وقعدوا، فمن أهل الإسلام من لجأ إلى قبيلة فحموه على إغماض، أو على دفع العار في الإخفار، ومنهم من فَرَّ من الإذاية وخوف الغرة هجرة إلى الله وحبًا في الإسلام، ومنهم من لم يكن له وزر يحميه، ولا ملجأ يركن إليه؛ فلقي منهم من الشدة والغلطة والعذاب أو القتل، ما هو معلوم؛ حتى زل منهم من زل؛ فرجع أمره بسبب الرجوع إلى الموافقة، وبقي منهم من بقي محتسبًا صابرًا، إلى أن أنزل الله تعالى الرخصة في النطق بكلمة الكفر على حكم الموافقة ظاهرًا ليحصل بينهم وبين الناطق الموافقة وتزول المخالفة، فنزل إليها من نزل على حكم التقية ريثما يتنفس من كربه ويتروح من خناقه وقلبه مطمئن بالإيمان؛ وهذه غربة أيضًا ظاهرة وإنما كان هذا جهلًا منهم بمواقع الحكمة، وأن ما جاءهم به نبيهم هو الحق ضد ما هم عليه.

[الغربة الثالثة]

ثم استمر تزايد الإسلام واستقام طريقه على مدة حياة النبي -صلى الله عليه وسلم- ومن بعد موته وأكثر قرن الصحابة -رضي الله عنهم-، إلى أن نبغت فيهم نوابغ الخروج عن السنة وأصغوا إلى البدع المضلة؛ كبدعة القدر، وبدعة الخوارج؛ وهي التي نبه عليها الحديث بقوله: "يقتلون أهل الإسلام ويدعون أهل الأوثان يقرؤون القرآن لا يجاوز تراقيهم" (١)، يعني: لا يتفقهون فيه بل يأخذونه على الظاهر: وهذا كله في آخر عهد الصحابة.

ثم لم تزل الفرق تكثر حسبما وعد به الصادق -صلى الله عليه وسلم- في قوله: "افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة، والنصارى مثل ذلك، وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة" (٢)، وفي الحديث


(١) البخاري (٣٦١٠)، مسلم (٨٢٢).
(٢) أبو داود (٤٥٩٦)، الترمذي (٢٦٤٠)، وقال: حسن صحيح، ابن ماجه (٣٩٩١)، وصححه الألباني في الصحيحة (٢٠٣).

<<  <  ج: ص:  >  >>