للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

إذا استمعت إلى حروف القرآن خارجة من مخارجها الصحيحة، تشعر بلذة جديدة في رصف هذه الحروف بعضها بجانب بعض في الكلمات والآيات. هذا يُنقر، وذاك يُصفر، وهذا يخفى، وذاك يُظهر، وهذا يُهمس، وذاك يجهر إلى غير ذلك مما هو مقرر في باب مخارج الحروف وصفاتها في علم التجويد، ومن هنا يتجلّى لك جمال لغة القرآن حين خرج إلى الناس في هذه المجموعة المختلفة المؤتلفة الجامعة بين اللين، والشدة، والخشونة، والرقة، والجهر، والخفية على وجه دقيق محكم، وضع كلًا من الحروف وصفاتها المتقابلة في موضعه بميزان، حتى تألف من المجموع قالب لفظي مدهش، وقشرة سطحية أخّاذة، امتزجت فيها جزالة البداوة في غير خشونة برقة الحضارة، من غير ميوعة، وتلاقت عندها أذواق القبائل العربية على اختلافها بكل يسر وسهولة. (١)

[٣ - إعجاز في وضع الحروف: بمراعاة وضعها في مكان دون الآخر]

مثال: يقول الخطيب الإسكافي عن سر التعبير بالفاء في لفظ {كُلُوا} من قوله سبحانه في سورة البقرة: {وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ} [البقرة: ٥٨]، وعن سر التعبير بالواو لا بالفاء في لفظ {كُلُوا} أيضًا من قوله سبحانه في سورة الأعراف: {وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ وَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ} [الأعراف: ١٦١] مع أن القصة واحدة ومدخول الحرف واحد قال رحمه الله: الأصل أن كل فعل عطف عليه ما تعلق به، تعلق الجواب بالابتداء، وكان الأول مع الثاني بمعنى الشرط والجزاء، فالأصل فيه عطف الثاني على الأول بالفاء، ومنه: {وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا} فإن وجود الأكل متعلق بالدخول، والدخول موصل إلى الأكل؛ فالأكل وجوده معلق بوجوده بخلاف {وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ وَكُلُوا} لأن السكنى مقام مع طول لبث، والأكل لا يختص وجوده بوجوده؛ لأن من يدخل بستانًا قد يأكل منه مجتازًا فلما لم يتعلق الثاني بالأول، تعلق الجواب بالابتداء وجب العطف بالواو دون الفاء. (٢)


(١) مناهل العرفان في علوم القرآن ٢/ ٣٠٦.
(٢) درة التنزيل وغرة التأويل منقول من مناهل العرفان في علوم القرآن ٢/ ٣٠٦.

<<  <  ج: ص:  >  >>