للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

يلزم من هذه القصة شيء أعظم من عجز الخالق -عَزَّ وَجَلَّ- عن اتهام مراده بالجمع بين العدل والرحمة، وهو انتفاء كل من العدل والرحمة في صلب المسيح؛ لأنه عذبه من حيث هو بشر وهو لا يستحق العذاب لأنه لم يذنب قط، فتعذيبه بالصلب والطعن بالحراب على ما زعموا لا يصدر من عادل ولا رحيم بالأحرى. فكيف يعقل أن يكون الخالق غير عادل ولا رحيم؟ أو أن يكون عادلًا رحيمًا فيخلق خلقا يوقعه في ورطة الوقوع في انتفاء إحدى هاتين الصفتين، فيحاول الجمع بينهما فيفقدهما معًا؟ .

فما رأينا أحدًا من العقلاء ولا من علماء الشرائع والقوانين يقول: إن عفو الإنسان عمن يذنب إليه، أو عفو السيد عن عبده الذي يعصيه ينافي العدل والكمال، بل يعدون العفو من أعظم الفضائل، ونرى المؤمنين بالله من الأمم المختلفة يصفونه بالعفو ويقولون: إنه أهل للمغفرة، فدعوى الصليبيين أن العفو والمغفرة مما ينافى العدل مردودة غير مسلمة (١).

الوجه الثالث: ما هو الأليق بجلال الله: أن يعفو عن المذنب، أم يصلب الإله نفسه فداءً له؟

فالله فتح باب التوبة للإنسان لأنه يعلم أن الإنسان ليس ملكًا مجردًا من الشهوة، وإنما هو مركب من الخير والشر، ومنطق العدل يستلزم أن يفتح باب توبته لمن يتوب، ولكن النصارى لا يؤمنون بالتوبة كطريق إلى مغفرة الذنوب، ويقولون ليست هناك توبة كاملة لأي مخلوق، وأن الأعمال الصالحة كالتوبة لا تجدي شيئًا لأنَّها طرق بشرية، ولا بد من غفران الذنوب من وسيلة إلهية (وهي صلب المسيح الإله نفسه على الصليب) (٢).

وإذا كان الأب عادلًا فكيف يعاقب الذرية من آدم إلى المسيح بالبعد عن رحمته وما ذنب الأبناء في إثم ارتكبه أبوهم، قال تعالى: {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} وقال تعالى: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَال ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (٧) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَال ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (٨)}، وإذا كان الله محبة لمَ ترك بني آدم في هذه الفترة الطويلة من غير أن يغفر لهم، وإذا كان قد حرمهم هذه


(١) تفسير المنار لمحمد رشيد رضا ٦/ ٢٦: ٢٧.
(٢) مشكلات العقيدة النصرانية (١٥٩).

<<  <  ج: ص:  >  >>