للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

قال ابن حزم: إن منكري النسخ قالوا: ليس من الحكمة أن يأمر الله تعالى بشيء أمس ثم ينهى عن مثله اليوم، وهذا من نظائر قول أصحابنا بالعلل، وهؤلاء قوم يتعقبون على ربهم تعالى، فيقال لهم: أخبرونا أي حكمة وجبت عليه تعالى أن يأمر أمس بما أمر به؟ أترى لو لم يأمر تعالى بما أمر به لكانت تبطل حكمته؟ أو لو أمر بغير ما أمر به لكانت تبطل حكمته؟ أو ترون إذ قدس الأرض المقدسة، ولعن أريحا، ولعن أورشليم أكان ذلك مفسدا لحكمته؟ وإذ حظر العمل في السبت وأباحه في الأحد، أرأيتم لو عكس الأمر أكان ذلك مبطلا لحكمته؟ فإن راموا فرقًا بين شيء من ذلك لحقوا بالمجانين، وجاهروا بما لا يفهم وبما يعلم بطلانه.

ثم يُقال لهم: أليس الله تعالى قد ملّك قومًا من الكفار العصاة الظلمة ومكّنهم، وأذل قومًا من الكفار العصاة الظلمة وملّك غيرهم رقابهم، وملك قومًا صالحين فضلاء مؤمنين، ومكنهم وبسط أيديهم، وأذل قومًا صالحين فضلاء مؤمنين وملك غيرهم رقابهم، ومد أعمار قوم كفار طغاة، واخترم آخرين منهم قبل بلوغ الاكتهال، وفعل مثل ذلك بقوم مؤمنين أفاضل، ومكّن قومًا عصاة مردة من البيان والكلام في العلوم حتى أضلوا أمما من الخلق، وجعل آخرين منهم بلداء أغبياء، وفعل مثل ذلك أيضًا بالمؤمنين سواء بسواء، فما الذي جعل هذا حكمه دون عكس كل ذلك؟ وما الفرق بين هذا من أفعاله تعالى وبين أن يأمر اليوم بأمر ثم ينهى عن مثله غدا؟ وما يفرق بين كل ما ذكر إلا عديم عقل أو وقح سخيف. (١)

الوجه الثاني: الذي يحكم بالحسن والقبح هو الله.

فإن الحُسن والقبح وما اتصل بهما ليست من صفات الفعل الذاتية حتى تكون ثابتة فيها لا تتغير؛ بل هي تابعة لتعلق أمر الله ونهيه بالفعل وعلى هذا يكون الفعل حسنًا وطاعة ومحبوبًا لله ما دام مأمورًا به من الله، ثم يكون هذا الفعل نفسه قبيحًا ومعصية


(١) الإحكام لابن حزم (١/ ٤٧٠).

<<  <  ج: ص:  >  >>