ربما يقول قائل: إن هذا الذي ذكرت هو عمل الكنيسة الرومانية الكاثوليكية، ولكن قد قام في المسيحية مصلحون يرون إرجاع الدين إلى أصل الكتب المقدسة، ويبيحون للعامة أن ينظروا فيها ويفهموها، وقد رفعوا تلك السيطرة عن الضمائر والعقول، ومن عهد ظهور الإصلاح والرجوع إلى أصول الدين الأولى بزغت شمس العلم بالرغب، وبسط للعلم بساط التسامح، وذلك لا يمكن أن يكون إلا جريًا مع طبيعة الدين.
لا أذكر في الجواب عن ذلك إلا ما ذكر البروتسانت أنفسهم في تاريخ الإصلاح: استمرت عقوبة الموت قانونًا يحكم به على كل من يخالف معتقد الطائفة، وقد أمر كلفان -هو الزعيم الثاني للبروتستانت ولوثر الأول- بإحراق (سيرفيت) في جنيف لأنه كان يعتقد أن الدين المسيحي كان قد دخل عليه شيء من الابتداع قبل مجمع نيقية، وكان يقول إن روح القدس ينعش الطبيعة بأسرها. فكان جزاؤه على هذا أن شوي على النار حتى مات وكذا أحرق (فايتي) في تولوز سنة ١٦٢٩.
قالوا: البروتستانت قاموا يطالبون بالحرية في فهم الكتب المقدسة وبإبطال السلطة على غفران الذنوب والتجارة ببيع الثواب والسعادة الأخروية، وإبطال عبادة الصور.
ولكنهم لم يغيروا شيئًا من الاعتقاد بأن الكتب المقدسة هي نبراس الهداية في طريق العلم البشري، كما أنها منبع نور الإيمان بالدين الإلهي، وأنه لا يباح للعقل أن ينساق في نظره إلى ما يخالف شيئًا مما حوته، وأنه لا حاجة إلى شيء من العلم وراء ما ورد فيها. وبالجملة إنهم لم يبطلوا أصلًا من الأصول الستة التي تقدمت، إلا أنهم قالوا بمنع غلو الرؤساء في سلطتهم المبنية على الأصل الثاني في سابق قولنا.
قالوا: ولهذا لم يكن مذهب الإصلاح أخف وطأة على العلم، ولا أفضل معاملة له من الكاثوليك، لأن كلا المذهبين يرجع إلى طبيعة واحدة (وهي القائمة على الأصول الستة)