للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ثم انضاف إلى ذلك التصرف البديع في الوجوه التي تتضمن تأييد ما يبتدأ تأسيسه، ويراد تحقيقه، بانَ - ظهر - التفاضل في البراعة والفصاحة؛ ثم إذا وجدت الألفاظ وِفْقَ المعنى، والمعاني وِفْقَهَا لا يفضُل أحدهما على الآخر؛ فالبراعة أظهر، والفصاحة أتمّ.

[٢ - الكلمة من القرآن يتمثل بها في تضاعيف كلام كثير وهي غرة جميعه وواسطة عقده]

فالكلام يتبين فضله ورجحان فصاحته؛ بأن تذكر منه الكلمة في تضاعيف كلام، أو تقذف ما بين شعر فتأخذها الأسماع، وتتشوف إليها النفوس، ويرى وجه رونقها باديًا غامرًا سائر ما تقرن به كالدّرّة التي ترى في سلك من خرز، وكالياقوتة في واسطة العقد، وأنت ترى الكلمة من القرآن يتمثل بها في تضاعيف كلام كثير، وهي غُرّة جميعه، وواسطة عقده، والمنادي على نفسه بتميزه وتخصصه برونقه وجماله (١).

[٣ - عدم زيادة اللفظ على المعنى: عن طريق القصد في اللفظ مع الوفاء بالمعنى.]

قصد القرآن في اللفظ مع وفائه بالمعنى؛ ومعنى هذا إنك في كل من جمل القرآن، تجد بيانًا قاصدًا مقدرًا على حاجة النفوس البشرية من الهداية الإلهية، دون أن يزيد اللفظ على المعنى، أو يقصر عن الوفاء بحاجات الخلق من هداية الخالق، ومع هذا القصد اللفظي البريء من الإسراف والتقتير، تجده قد جلي لك المعنى في صورة كاملة، لا تنقص شيئًا يعتبر عنصرًا أصليًّا فيها، أو حليةً مكملةً لها، كما أنها لا تزيد شيئًا يعتبر دخيلًا فيها وغريبًا عنها، بل هو كما قال الله: {كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ} [هود: ١].

ولا يمكن أن تظفر في غير القرآن بمثل هذا الذي تظفر به في القرآن، بل كل مِنطِيق (٢) بليغ مهما تفوق في البلاغة والبيان، تجده بين هاتين الغايتين، كالزوج بين ضرّتين، بمقدار ما يرضي إحداهما يغضب الأخرى؛ فإن ألقى البليغ باله إلى القصد في اللفظ، وتخليصه مما عسى أن يكون من الفضول فيه، حمله ذلك في الغالب على أن يغضّ من شأن المعنى، فتجيء صورته ناقصة خفية ربما يصل اللفظ معها إلى حد الإلغاز والتعمية؛ وإذا ألقى البليغ باله إلى الوفاء


(١) إعجاز القرآن للباقلاني ١/ ٤٢.
(٢) صفة على وزن: فِعْلِيلٌ، أي صاحب كلام فصيح. لسان العرب (مادة: كلم).

<<  <  ج: ص:  >  >>