للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فإن عنده من الشياطين والعفاريت ما يحفرون له الماء، ولو بلغ في العمق ما بلغ، وسخر الله له الريح غدوها شهر ورواحها شهر، فكيف - مع ذلك - يحتاج إلى الهدهد؟

وقوله: {فَقَالَ مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ} أي: هل عدم رؤيتي إياه لقلة فطنتي به، لكونه خفيًا بين هذه الأمم الكثيرة؟ أم على بابها بأن كان غائبًا من غير إذني ولا أمري؟ فحينئذ تغيظ عليه وقال: {لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا} دون القتل {أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ} أي: حجة واضحة على تخلفه، وهذا من كمال ورعه وإنصافه أنه لم يقسم على مجرد عقوبته بالعذاب أو القتل؛ لأن ذلك لا يكون إلا من ذنب، وغيبته قد تحتمل أنها لعذر واضح، فلذلك استثناه لورعه وفطنته.

{فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ} ثم جاء، وهذا يدل على هيبة جنوده منه، وشدة ائتمارهم لأمره، حتى إن هذا الهدهد الذي خلفه العذر الواضح لم يقدر على التخلف زمنًا كثيرًا، {فَقَالَ} لسليمان: {أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ} أي: عندي العلم علم ما أحطت به على علمك الواسع وعلى درجتك فيه، {وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ} القبيلة المعروفة في اليمن {بِنَبَإٍ يَقِينٍ} أي: خبر متيقن (١).

[الوجه الثالث: هل الهدهد أعلم من سليمان - عليه السلام -؟]

والرد من أوجه:

أولها: قوله: {أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ} ففيه تنبيه لسليمان على أن في أدنى خلق الله تعالى من أحاط علمًا بما لم يحط به، فيكون ذلك لطفًا في ترك الإعجاب، والإحاطة بالشيء علمًا أن يعلم من جميع جهاته (٢).

ثانيها: فإن قيل: كيف يجوز أن يُقال إن سليمان لم يعلم به، وكانت أرض سبأ قريبة منه، وهناك ملك لم يعلم به سليمان؟


(١) تفسير السعدي (١٩/ ٦٠٣ - ٦٠٤).
(٢) تفسير الرازي (٢٤/ ١٩٠).

<<  <  ج: ص:  >  >>