للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

بالقرآن من الأمية وعرفوا تاريخ أهل الكتاب وغيرهم كالبابليين ظهر لهم أن إخبار القرآن بذلك كان من معجزاته الدالة على أنه من عند الله؛ إذ ظهر لهم أن اليهود قد فقدوا التوراة التي كتبها موسى ثم لم يجدوها، وإنما كتب لهم بعض علمائهم ما حفظوه منها ممزوجًا بما ليس منها، والتوراة التي في أيديهم تثبت ذلك كما بيناه في غير هذا الموضع ... وهذه الآيات (المائدة ٤٥: ٤٧) من سياق التي قبلها والتي بعدها، والغرض منها بيان كون التوراة كانت هداية لبني إسرائيل فأعرضوا عن العمل بها لما عرض لهم من الفساد، وبيان مثل ذلك في الإنجيل وأهله، ثم الانتقال من ذلك إلى ما سيأتي من ذكر إنزال القرآن ومزيته وحكمة ذلك، ومنه يُعلم أن العبرة بالاهتداء بالدين وأنه لا ينفع أهل الانتماء إليه إذا لم يقيموه؛ إذ لا يستفيدون من هدايته ونوره إلا بإقامته والعمل به، وأن إيثار أهل الكتاب أهوائهم على هداية دينهم، هو الذي أعماهم عن نور القرآن والاهتداء به (١)

الوجه الرابع: الآية فيها تعجب من صنعهم حيث عدلوا عن الحق إلى الباطل؛ فظهر جهلهم وعنادهم.

قال الرازي: هذا تعجيب من الله تعالى لنبيّه - صلى الله عليه وسلم - بتحكيم اليهود إياه بعد علمهم بما في التوراة من حد الزاني، ثم تركهم قبول ذلك الحكم، فعدلوا عما يعتقدونه حكمًا حقًّا إلى ما يعتقدونه باطلًا طلبًا للرخصة، فلا جرم ظهر جهلهم وعنادهم في هذه الواقعة من وجوه:

أحدها: عدولهم عن حكم كتابهم، والثاني: رجوعهم إلى حكم من كانوا يعتقدون فيه أنه مبطل، والثالث: إعراضهم عن حكمه بعد أن حكموه، فبيّن الله تعالى حال جهلهم وعنادهم لئلا يغتر بهم مغتر أنهم أهل كتاب الله ومن المحافظين على أمر الله (٢).

قال محمد رشيد رضا: هذا تعجيب من الله لنبيه ببيان حال من أغرب أحوال هؤلاء القوم، وهو أنهم أصحاب شريعة يرغبون عنها ويتحاكمون إلى نبي جاء بشريعة أخرى وهم لم يؤمنوا به، أي: وكيف يحكمونك في قضية كقضية الزانيين أو قضية الدية، والحال


(١) تفسير المنار ٦/ ٣٣٦: ٣٣٧.
(٢) تفسير الرازي ١١/ ٢٣٦.

<<  <  ج: ص:  >  >>