بهرت حكمته العقول الذي لا يشاركه مشارك في حكمته، كما لا يشاركه في خلقه، فلا شريك له بوجه، فمن ظن أن يكتال حكمته بمكيال عقله أو يجعل عقله عيارًا عليها فما أدركه أقر به وما لم يدركه نفاه فهو من أجهل الجاهلين ولله في كل ما خفي على الناس وجه الحكمة فيه حكم عديدة لا تدفع ولا تنكر. (١)
فعلّة الأسباب الإيمانية ليست في أن نفهمها أو نعرف الحكمة منها، ولكن علة الأشياء في أن الله سبحانه وتعالى قد أمرنا بها.
فالواجب على المسلم أن يمتثل ما أمر الله ورسوله مما شرعه في أعمال الحج وأن لا يدع ما أمر الله به ورسوله - صلى الله عليه وسلم - لعدم علمه بالحكمة في ذلك لأن ترك العمل بذلك - إلا بعد العلم بالحكمة فيه - من شأن أهل البدع المارقين المتعنتين بالأسئلة والتشكيكات والمعارضة الباطلة لما شرعه الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - كما نبه على ذلك أهل العلم.
[الوجه الرابع: توضيح حقيقة العبادة وماهيتها.]
إذا كان هؤلاء يعدّون تقبيل الحجر الأسود والسجود تجاه الكعبة والطواف والسعي بين الصفا والمروة عبادة لهم من دون الله، فلا بد إذًا أن نبدأ ببيان حقيقة العبادة وماهيّتها.
إن من يعبد شيئًا مهما كانت طبيعته فإنه يعتقد أن له سلطة غيبية ينعكس تأثيرها على الواقع، وبالتالي فإن العابد يتقرّب إلى معبوده رجاءً للنفع أو دفعًا للضرّ، وهو في الوقت ذاته يعتقد أن التقصير في حق هذا المعبود أو ترك عبادته يترتّب عليه حصول الضرر ووقوعه كنوع من العقاب، ومثل هذا مُشاهدٌ حتى في واقع الناس اليوم من أتباع الديانات الوثنية المنتشرة في أرجاء الأرض، إذ يلاحظ في أتباع تلك الديانات خضوعًا لمعبوداتهم رغبةً في جلب المنافع المختلفة، أو دفع المضارّ من القحط والجفاف ونحوه، مع تعلّق قلوبهم بهذا المعبود خشية منه ورهبة من سلطانه.
وهذه السلطة الغيبية قد تكون في نظرهم سلطة ذاتية، بمعنى أن العابد يرى استقلال معبوده بالنفع والضرّ، وهذا كالذين يعبدون الشمس والكواكب لاعتقادهم بتأثيرها على نواميس الكون وتسييرها للخلائق، أو أن تكون السلطة غير ذاتية بأن يعتقد أن معبوده