يشكّل واسطة بينه وبين قوّة علوية لها قدرة ذاتية مستقلة في النفع والضرّ، فيؤدي ذلك إلى عبادته رجاء شفاعته عند من يقدر على النفع والضرّ، كما هو الحال مع كفار قريش الذين كانوا يعتقدون أن الأصنام والأوثان التي يعبدونها تقربهم إلى الله جلّ وعلا، وتشفع لهم عنده، يقول الله - عز وجل - مبينا ذلك:{وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى}[الزمر: ٣]، وقال تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (١٨)} [يونس: ١٨].
وبناءً على ما سبق، فإن المسلمين لم يعبدوا الحجر الأسود ولا غيره، لأنهم لا يرون أن أحدًا يملك الضرّ والنفع غير الله تعالى، فهم ينفون وجود أية سلطة ذاتية في المخلوقات مهما كانت، كما أنهم يرون أن علاقة المخلوق بالخالق علاقة مباشرة ليس فيها وسيط، وأن العباد لا يحتاجون إلى شفيعٌ يقصدونه بالتقرّب دون الله - عز وجل -، بل إنهم يعدّون ذلك من الشرك الأكبر المخرج من ملة الإسلام، لأنهم يرون أن العبادات لا يجوز صرفها لأي مخلوق، سواء أكان ملكًا مقرّبًا أم نبيًّا مرسلًا، فضلًا عن كونه حجرًا لا يضرّ ولا ينفع.
ويقرّر ذلك الصحابيّ الجليل عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - في مقولته الشهيرة:"إني أعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع ولولا أني رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقبلك ما قبلتك"(١)، فقد أراد أن يبيّن للناس أن هذا الفعل هو محض إتباع للنبي - صلى الله عليه وسلم -، وليس لأن الحجر ينفع أو يضرّ، وعليه فإنه لا قدسية لأحجار الكعبة بذاتها، وإنما اكتسب الحجر الأسود هذه المزية لأمر الله تعالى بتقبيله، ولو لم يرد ذلك الأمر لم يكن لأحد أن يقوم بتقديسه أو تقبيله.
ثم إن رحى العبادة تدور على قضيّتين أساسيّتين: تمام المحبة مع غاية الذلّ والخضوع، فمن أحبّ شيئًا ولم يخضع له فليس بعابد له، ومن خضع لشيء دون أن يحبّه فهو كذلك ليس بعابد له، ومعلوم أن تقبيل الحجر الأسود هو فعلٌ مجردٌ من الخضوع والذلّ لذلك الحجر.
ومن المناسب أن نقول: إن من يعبد شيئًا فلا شكّ أنه يرى في معبوده أنه أعلى منه وأفضل